شعر جنون في رواية الحلم لي
قرأت رواية حليمة زين العابدين الصادرة عن دار الأمان المغربية
بعين الشاعر الذي يبحث عن لحظة توغل في أنفاق مظلمة، ويحاول أن يضيء شمعة ليبحث
عن ذاته الجريحة في هذه الأوراق المكتوبة بالجنون؛ ولأن الشعر جنون، فجرعته
كانت زائدة في هذه الرواية أو على الأقل في تلقي لها.. لهذا قررت أن أخفف من
ضغط الشاعر علي، وأجعله خلفية للناقد الذي يسكن جزءا كبيرا مني. ربما لأن
الحياة عملتني أن النقد هو خطاب العقل والصرامة؛ لأجل ذلك أخرجت عدتي النقدية
كي أشرح الرواية تشريحا جماليا ومعرفيا. قررت قبل ذلك أن أضع حدا لحساسيتي
المفرطة أو خففت منها لأبحث عن مدخل إلى الرواية، أو يبحث عني وأنا في غفلة
مني. لم يكن مدخلا واحدا بل كانت هناك مداخل كثيرة لا مخرج لها.. كلما نمى
الفعل السردي، أكتشف استراتيجيات هائلة.. ولأن الزمن ورطني في الرواية بأبعادها
المختلفة، اخترت أو أجبرت على اتخاذ الزمن مدخلا لقراءة الرواية. فمادام الحلم
مفتوحا نحو الزمن الاستعادي والزمن الاستباقي والزمن المتوقف والمتحرك والزمن
النفسي والفيزيائي.. فلماذا لا أخوض مغامرته.
تدور أحداث الرواية الحلم لي بين مكانين: بلد المدينة، وبلد قرية الصيادين،
يحرك أحداثها مجموعة من الشخصيات: علاء، وخديجة، والعم عامر، وبهية، وأصيل،
ومجد، ووردة، والأستاذ حمدان.. تدخل الرواية عبر الأحداث في مقارنة المكانين؛
يرمز المكان الأول للوطن العربي من المحيط إلى الخليج بعهره، وأمراضه،
وتحولاته، وأسئلته الراهنة، بينما يرمز المكان الثاني ل«بلد قرية الصيادين»
بوصفه مكانا يؤجل الحلم. وكأن المقارنة الذكية بين المكانين هي مقارنة بين بلد
القهر والظلم والموت وبلد الحرية والحب والحياة. نجحت الرواية على نحو واسع في
تصوير هذا الصدام القائم على المفارقة. وبين الكائن والمؤجل كتب على شخصيات
الرواية أن تعيش الشقاء، وهو الشقاء الذي امتد إلى شخصيات بلد قرية الصيادين،
فعلاء هو تجربة إنسانية ذات أبعاد رمزية، لنقل إنه المناضل اليساري الذي يضحي
بذاته من أجل سعادة الوطن، بل إنه يقدم نفسه قربانا للحاكم كي يتخلص الآخر
«خديجة» منه أو ليمنح حياة أخرى للوردة التي تجري في أحشاء خديجة.
تبدأ الرواية بمشهد سينمائي يصور حالة وردية بين عاشقين هما: علاء وخديجة، حيث
يتآمران للعبور من الموت نحو الحياة، من بلد المدينة إلى بلد قرية الصيادين،
وهناك سيختطفان من الزمن لحظات من الحب والعشق، وهناك ستتعلم خديجة كيف تفتح
عينيها للحياة، يعودان من قرية الصيادين نحو بلد المدينة، والعودة من الحلم إلى
الواقع تصطدم بسلطة همها القضاء على كل صوت ينادي بالحرية والكرامة والعدالة.
وفي حالة انصهار بين العاشقين سيختطف الزمن علاء بعدما هرب حبيبته وهي حامل
بوردته. سيقضي علاء سنوات في السجن لا يعرف مآل الحبيبة التي أرسلها إلى بلد
قرية الصيادين لتنعم بالدفء هي ومولودها. كل لحظة في المعتقل تمر إلا واستعاد
حبيبته المؤجلة، عذب بوحشية، لكن حلمه بحياة أخرى خالية من الألم ظل يراوده وهو
في أقبية الجلادين. عبثا تنازل عن حلمه، وبرفقة الاستاذ حمدان تعلما كيف يخططان
للمدينة الفاضلة التي تسكنهما. وعبر الحلم شيدا الجامعات والمعاهد وسنا قوانين
تنتصر للإنسان وغيرا العادات والتقاليد الرجعية.. لكنه ظل حلما يراودهما.
وتعرفنا عبر الحلم ذاته على مصائر بعض الشخصيات، والأسئلة العالقة، والأحلام
المؤجلة؛ بحيث يروى جزء كبير من هذه الرواية تحت دهاليز الاعتقال. ويسافر علاء
عبر وسيط اللغة والصورة في الماضي ليستعيد صورة الحبيبة وفي الوقت نفسه يستعيد
علاقته بوطنه وبوطن الآخرين. ويوم خروجه، لم يكن يشغله سوى التعرف على مصير
حبيبته. حاول أن يبحث أن يسأل لكن الطبيب طلب منه أن يؤجل بحثه حتى يرمم جسده
العليل. وعن طريق محفز سردي هو أصيل سيتعرف على تقنيات التواصل الجديدة،
وسيتعرف على واقع جديد. هو واقع تحول السلط من الحاكم الديكتاتوري الذي ظل يحكم
بشعارات مختلفة إلى حاكم يحكم بشعارات الدين. لكن الواقع قد تغير فلم يعد
المناضل اليساري هو الذي قاد التغيير إبان الحكم السابق. لنقل إن النظام غير
الصورة ولم يغير أساليب إنتاج القمع والتصفية.
يتعرف عبر أصيل على مستجدات الوسائط، ويتخذ الفايسبوك وسيلة للبحث ولإيجاد
أجوبة عن أسئلته الجريحة. ليتمكن من الوصول إلى صفحة بهية التي سيراسلها
وسيستفسرها في شأن خديجة ووليدها. إن هذا الفعل هو بمثابة مولد لطاقة السرد،
وسيمنح السارد صوته لبهية لتحكي عن مأساة خديجة الممتدة في الماضي ومأساة وردة
الممتدة في الحاضر. فإذا كانت ذئاب الغابة الفاصلة بين بلد المدينة وبلد قرية
الصيادين نهشت لحمها ولم يتمكن العم عامر من إنقاد حياتها وهي في حالة مخاض.
فإن الذئاب البشرية أجهزت على وردة، حيث تبيح قوانين بلد المدينة من تزويج
القاصر المغتصبة لمغتصبها.
إذا كان الفعل الأول قد امتد في الماضي بوصفه خلفية حكائية أنهت حياة وامتداد
خديجة، فإن وردة هي المكملة والمتممة للفعل السردي، وعبرها سيعلن عامر حربا
سياسية واجتماعية على بلد المدينة ليطالبه بضرورة معاقبة المذنبين. بعد تلقي
علاء رسالة طافحة بالشجن والألم سيعد نفسه للسفر إلى بلد قرية الصيادين وهناك
رفقة بهية وأصيل ومجد سيعملون معا نحو بناء وعي ثقافي وسياسي لكل الهاربين من
جحيم بلد المدينة وعبر العمل الجمعوي التطوعي، سينيرون الشموع ليتوجهوا إلى بلد
المدينة من أجل تحرير تاريخه من اللحي. هكذا تنتهي الرواية على إيقاعات الحلم
المشروعة والمسكونة بالأمل.
علاء يعيش الأزمنة كلها، فالماضي بالنسبة له يتوزع بين الشقاء والسعادة، بين
حضن خديجة وأحلام الوطن، وبين هراوة الجلاد وقسوة المعتقل. أما الحاضر فيمثل له
نقطة تقييم لتحرير الذات من الذاكرة والانطلاق من أخطاء الماضي لتصحيح الواقع
مدفوعا بالأمل في مستقبل مغاير.
أما خديجة فهي وإن انتهت مأساتها في الغابة ولم تستطع الانسلات إلى بلد
قرية الصيادين، فإن رمزيتها ممتدة من حيث معاناتها في الحاضر والمستقبل ويمكن
اعتبار وردة وسهيلة هما بمثابة امتدادين سرديين.
أما بهية والعم عامر فالزمن بالنسبة لهما لا يتغير إلا بفعل خارجي مرتبط بما
قسته ابنتهما وردة، فصورة عامر وبهية في علاقتهما بالزمن متوقفة؛ لأن الحب
هو المدخل الذي يحدد امتدادهما.
رواية «الحلم لي» هي بمثابة ملحمة إنسانية، وأنا أتفهم لماذا لم تلجأ الرواية
إلى إعطاء أسماء واقعية للمدينة. بل اكتفت بجعلها رمزا، فبلد المدينة هو امتداد
للمدينة العربية المختزل في الجحيم، بينما قرية الصيادين فهي وطن الحالمين،
إنها الجنة التي نأسرها بفعل التخييل. المكان الأول الممتد في الواقع والمكان
الثاني الممتد في الخيال.
وأنا أقرأ هذه الرواية أحسست أنني أمام شاعرة وليس روائية، أستغرب لماذا أصرت
الروائية أن تسمي عملها رواية، فهو ديوان شعري مفتوح، كنت وأنا أقرأ أصادف
صفحات من قصائد الكتلة، وحينما تريد الروائية أن تخفف عنف الشعر تكتب قصيدة
الشذرة.
إنها ليست رواية شاعرية، وإنما هي ديوان مكتوب بأساليب وتقنيات الرواية، وشعرية
الرواية لا تقف عند هذا الحد بل إن بعض أبطالها مثل أصيل وبهية شعراء، وهناك
الكثير من المقاطع المبثوثة داخل الرواية لشعراء من قبيل مسودات عبد العاطي
جميل وهو إنجاز حديث يحسب لحليمة زين العابدين، ونزار قباني، وبعض الأغاني
الشهيرة لمغنين طبعوا المخيال الثقافي الإنساني مثل: edith piaf، jak brel،
jean ferrat..
هكذا تمارس الكاتبة شعريتها من داخل جنس مخيف وهو الرواية، وتنجح في مغامرتها
السردية، وتقدم دروسا وعبرا لكتاب الرواية.

محمد العناز / المغرب
|
|
|