من طغيان الوهم إلى سكينة الحب
هذه المرأة المتوثبة، الباحثة باستمرار عن الحب وعن أخبار
الثورات وأفراحها وانتكاساتها وهزائمها؛ امرأة غارقة في الحزن والألم، لكنها
متطلعة للأمل...
تحكي وتحكي بدون توقف، تنثر بين السطور أحزانها، وتكشف أصدقاءها وصديقاتها
وأكثرهم افتراضيون (لا تعجبني هذه الكلمة)، وتفرد لأحبائها الواقعيين
والحقيقيين زوايا خاصة... تفتحها تارة وتغلقها تارة أخرى ومن هذه الزوايا ما
تغلقها بالمرة:
الأب، جبل البلدة في شهر دجنبر حين تغطيه ثلوج الوقار، سبحته لا تفارق يده،
مؤمن حد صيام جل أيام السنة... يشبه الله أو أن الله يشبهه...
الله، الساكن في القلب وفي الوجدان، الكبير كبر الكون، الطيب، النقي والجميل
والكريم، والذي يملأ وحدتها...
الملك، العطوف، نظرة الحزن تلك التي تشع من عيني الملك... كل شيء يمكن أن
نتصنعه سوى إحساس بالألم حين يشع من بؤبؤ العين، إنه انعكاس لما ينبض به القلب،
والقلب الذي يشعر بالألم هو قلب يسع الدنيا حبا، ولا تملك إلا أن تبادله حبا
بحب أكبر، والحب لا يفسر. (ص 31 و33)
الإبن، المفقود، الذي هو الحاضر والمستقبل، والحزن الذي يلفها بموته يسكنها
ويمتد في تفاصيل حياتها.
ورجل البحر؟ ذاك الذي جعلها النظر في عمق عينيه تصاب بدوار البحر، وترتعش
ضلوعها، ويلتهب جسدها بحمى تشتهيها مع كل هبة ريح...
أما الأمكنة التي تتوثب فيها ولا تبغي عنها بديلا، فهي البحر وشاطئه الفسيح
والقريب، ثم لوحة مفاتيح الحاسوب...ويمكن أن تجدها أيضا في مقر عملها أو في
منزلها وقد أمسكت بآلة التحكم عن بعد، أو منزل صديقتها سعاد، أو في مسيرة... أو
في ذكرياتها البعيدة...
لكنها رغم ذلك عصية عن اللقاء المباشر، لا تجدها بسهولة لأن: "يتعارض بداخلها
حياء تمكن منها حتى صار خجلا مستعصيا، علامة الممنوع المركب، منها ومنهم، يصد
ذاك القابع بداخلها... حر وبلا قيد ينتظر فرصته لإعلان التمرد، الشخص الأول
فيها شاخ وأصابه الوهن، ولكنه الأقوى، والثاني ما زال سيل مائه متدفقا ينحت ما
بين الصخر والتربة، ولكن لا صوت له..." ص 10
وبين الاثنتين، لا أعرف من هي؟ هل تخاطب إيما جين أم نفيسة يخلف؟
من ماذا تهرب؟ ومن من تتخفى؟ هل من ضيق في النفس وحزن جارف لها، أم من تضييق
على حرية التعبير؟ لماذا تتنكر لهويتها وتفتعل لنفسها شخصا آخر لتدخل به عالما
تفجر فيه المسكوت عنه، تناقش فيه وتتحاور وتقول ما لم تقله في السياسة والدين،
لتقول بلا رقابة. ص10
ومن أجل فهم حكاية هذه المرأة، وتتبع رحلة بحثها التي يظهر أنها لم تضنها،
ولكنها أضنتني أنا وأنا ألهث خلفها بين السطور وعلى الصفحات أو فوق الجدران، من
أجل الفهم، رغم أن الفهم غير ضروري ربما وأنت تقرئين رواية... حاولت اكتشاف خيط
أو خيوط نسجت منها خريطة توثبها المستمر، بين جدران الفيس أو جدران منازلها،
وافترضت أنها ستساعد على السير معها في هدوء حتى أصل وإياها إلى "الدرج الرابط
بلكونتها بالشاطئ." ص 142
كنت أود أن أنسج شبكة واسعة وممتدة، مليئة بمعاني متقاربة أو مترابطة، وبدأت،
ولكنها تحولت إلى ما يشبه السلسلة، سلسلة حلقاتها غير مغلقة تماما، وغير صلبة،
وقابلة للفك عند أول لحظة شدّ...
من لائحة الأصدقاء المغلقة إلى الإبحار المفتوح وبالاسم الحقيقي..
ومن لائحة الملحدين، إلى محبة الله...
من نسيم الربيع "العربي" إلى زوابع أفغانية بالمغرب...
من ثورة العالم العربي، إلى الاستثناء المغربي، أو إلى محبة الملك...
من عودة ماض مفترس، إلى استبداد الكرسي..
من 20 فبراير، إلى الحزن الطاغي..
من الشعر إلى خدعة الحب..
من التحرر من مؤسسة الزواج، إلى مكائد التواصل عبرالنت
من أوهام الثورة إلى استعباد النت...
من كتابة سخية لحب متخيل، إلى انكتاب بالحب..
من هروب مؤقت نحو الموسيقى إلى حزن كالحب..
والحب تفاؤل. "غرقت عيناها في البحر تراه من خلف زجاج نافذة المطعم، هناك حيث
يتوقف البصر، لاحت لها نقطة بيضاء كلما اقتربت صارت أكبر، صارت شراعا يعتلي
الموج... وقفت تتابع الشراع، كانت الريح مواتية تدفعه نحوها دون تجديف." ص 142
هذا الرسو على شاطئ التفاؤل هل أخرج نفيسة من ألم مستعص وحزن مستبد؟ أم أنه
لحظة عابرة تنفلت بها من أوهام كثيرة وكبيرة؟ وتجعلنا في الأخير نطمئن إلى هذا
النور المشع في الأفق، نحن الذين رافقناها وهي تصف الأمواج العاتية من الفرح
بالثورة، ومن الحسرة عليها وعلى آمال زائفة رافقتها وحولتها إلى خيبات قاتلة؟
كل ذلك حدث على الجدار أو من عبر شاشة التلفاز؟
عالم نفيسة عالم فسيح يوهم بالحرية وبالثورة، مليء بالأصدقاء وبعض الصديقات،
تنبثق فيه المكاشفة والبوح الصريح والعودة المستمرة إلى الذات؛ لكنه عالم
الشبكة العنكبوتية الممتدة في الأثير، شبكة توقع بعابريها وتجعلهم أسرى أبديين
"الفيس مغامرة كالكتابة، في البداية تكون لعبة، فتصبح عشيقا، ثم سيدا لتتحول
إلى طاغية" ص 51، في هذه الشبكة التقت "ساد" أو "سعد" فهل كان بعثا لابنها فيه؟
وأبقت على هويتها إرضاء له، عوض وضع القناع...
تنتقل نفيسة من هذا العالم المنسوج خيوطا صائدة، والعامر بالبيوت الزجاجية، إلى
عالم الخيال الجارف والحب المحموم والوله المستبد والأمل في الاستمرار.
تبقينا أسرى نحن أيضا معها في عالم نعيشه وراهن تحكيه، توثقه عبر أحاديثها مع
الأصدقاء العرب ومع أصدقاء العمل وزملائها فيه، وتحكي مواقفها وقناعاتها فتكتب
الراهن بدون حياد... وتصنع وثيقة تاريخ مقنعة...
لكنها تنقلنا إلى عالمها الخاص الجميل حيث أصبحت مادة للحب والعشق يكتبانها بكل
حنو وحنان وجمال، ورغم المرارة فهي تفتح الأفق على الأمل المضيء.

خديحة شاكر / المغرب
|
|
|