ذات مغتصبة
قلاع الصمت، رواية تعمل
على الحفر في تاريخ مدينة مراكش، كتاريخ محلي، وكجزء مهم من تاريخ المغرب،
من خلال إشارتها إلى فترة تحول سياسي كبير ارتكازا على أنوية أسرية ستعكس
صورة مدينة، وبالتالي صورة الوطن. لقد أبرزت الرواية ظاهرة الاعتقال السياسي بفظاعة وبشاعة، خصوصا أحداث ماي
1972، وما نتج عنها من تبعات. كما عكست صورة الذات الطفولية المغتصبة، من
خلال البطلة نعيمة، وهو اغتصاب بقدر ما تعددت مظاهره، وآثاره النفسية عرى
عن قبح كبير، واستغلال رهيب سيعقبه انتقام بشع. كما لمسنا العديد من
الإشارات حول الفترة الاستعمارية قبيل وبعد ثورة الملك والشعب، ودخول
البلاد إلى عهد الاستقلال. فالرواية حفر في تفاصيل مدينة مراكش، وبالخصوص أحياءها كحي بريمة الذي من
صلبه ستنقل شخوص الرواية الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكذلك
التطرق للواقع التعليمي بالمغرب سواء في المسيد (الحدار) أو في المدارس،
وكذا الجامعة في الرباط... كما رصدت الرواية العديد من الطقوس والاحتفالات
والألعاب الخاصة بالشباب والأطفال خلال الفترة. في حين، ارتكزت الكتابة على التوظيف المتعدد للحكاية والأسطورة وفن الحلقة
والتراث العربي من خلال التناص مع حكايات ألف ليلة وليلة. 1) نعيمة أو الذات المغتصبة في قلاع الصمت تنتمي نعيمة بطلة الرواية لأسرة غير منسجمة، نظرا لما لمسناه من قرائن
دالة على هذا الأمر، كالعلاقة بين جدها وجدتها، المتوترة بسبب رفضها
للإنجاب، لأسباب مبهمة، حسب ما جاء على لسان الأب وهو يخاطب أم نعيمة
(فاطمة) خذي (هذه الدمية)، تعلمي كيف تربي الأولاد حيث أمك ما بغات تولد
ليك خوك أصغر منك ص6. كما أن أمها زوجت وهي ما تزال قاصرا، كما جاء على
لسان الجدة البنت غدي تتزوج وهي مازال تتلعب، ما عارفاش هذا عرسها أو عرس
الجيران ص7 وهو عرس يأتي في سياق ظرفية حاسمة عرفت نفي ملك البلاد محمد
الخامس وإعلان حالة الطوارئ من طرف المستعمر الفرنسي بعد تولية ابن عرفة
سدة الحكم. وتبرز الرواية العديد من الأفكار المهيمنة، خلال الفترة، حول الولادة،
وإنجاب الإناث داخل الأسر المحافظة، وهيمنة النزعة الذكورية، بالإضافة إلى
طرحها لمفهوم الإنجاب بالمستشفى، وما أثاره من خلاف بين النساء حول ظاهرة
استبدال المواليد (الذكور بالإناث). تقول الراوية لالة خدوج، امرأة السي
علال، كحلة وجابت معها من السيبطار ولد ابيض. زهرة امرأة مول الفران تبدلات
ليها بنتها مع بنت ماري اليهودية ص13. وسنلاحظ أن والدة البطلة انتظرت مولودا ذكرا حلمت به مهدي لكنها رزقت
بفتاة نعيمة فرفضتها مدعية أن جارتها اليهودية، غيثة، أخذت ابنها،
واستبدلته بنعيمة، لتعيش حياة اليتم والمعاناة، حيث كانت تبدو أقرب إلى
خادمة منها إلى سليلة أسرة ميسورة. فمرض أمها النفسي سيبعدها من محيطها
بالقوة لترتبط أكثر بأسرة يعقوب اليهودية، خصوصا بعد إلصاق تهم وأوصاف
عديدة بها، كالنحس والشؤم: عينين البقرة، كنست أقدامها كل رزق أبيه
لوقوع أحداث متزامنة سواء مع ولادتها أو لعلاقتها بالأشخاص الذين تدور في
فلكهم الأسري. لذا، لم تكن تشعر بلذة تفوقها الدراسي، سواء في طفولتها أو في شبابها، لأن
أزهى مراحله اقترنت بأحداث أليمة، ستعيش كطفلة محرومة من الحب والحنان
واللعب، وستتعرض للعقاب البدني باستمرار، بسبب جرأتها ورغبتها في الاكتشاف
والمعرفة. أنا لم أقل للراعي الصغير الذي طرده أبي أن يرفع جلبابه لأرى
أوجه الاختلاف والتشابه بين أسفل جسدين ص39 كما تميزت إلى جانب تفوقها
الدراسي، بتفوقها في مختلف الألعاب على أقرانها من الإناث والذكور على
السواء. وستعاني البطلة كثيرا، بسبب قرابتها من غيثة اليهودية، باعتبارها أما من
الرضاعة، وهو ما سيخلق لديها عقدة الانتماء، والهوية. فإذا كانت أمها
البيولوجية تنزع عنها ذلك الإحساس بلازمتها المعهودة ولدي تبدل فالسبيطار
مع بنت غيثة اليهودية وبين حبها لها خصوصا بعدما عرفت أن يهود الحي
سيرحلون إلى إسرائيل (ص52). كما سيبرز لديها إشكال المعتقد، وهو ما دفعها
إلى صراع عنيف أنا لست يهودية، فإذا كانت ماما غيثة أمي الحقيقية، والأب
يعقوب أبي، فأنا لست يهودية... الفقيه الذي يفتح لي صدره، هل يسمح لي بعد
الآن بدخول الكتاب، أو الصلاة وراءه بالمسجد؟ (ص53). وسنلمس أن الإحساس الذي بدأ يتملكها، كلما أدركت ما حولها ومحيطها، أنها
طفلة منبوذة، وفهمها لمشاعر الآخرين نحوها، بكونها غير مرغوب فيها،
بالإضافة إلى تحريض أمها المستمر لأبيها لتوبيخها لم يولد سوى القسوة،
وتعميق جراحها الداخلية التي ظلت تنزف داخل حناياها الصغيرة. لنكتشف صراعا
مرا بين منطق الطفلة وبحثها عن سبيل للخلاص، وسلاحا لمقاومة ردود أفعال
أمها، حسب تعبيرها البسيط للأشياء، وبين المنطق النفسي في نزاهته والذي
مثله الفقيه السي مروان، في الحفاظ مؤقتا على تيهها وضياعها المبكر، فمما
ميز طفولة البطلة، القسوة التي ووجهت بها مواقفها من بطش والديها الذي وصل
إلى جانب الكراهية والنبذ من طرف الأم إلى الحبس والتعذيب من طرف الأب الذي
نزع ملابسها وألبسها كيسا من الخيش... أخذ مقصا وقص شعرها كما تدز صوف
الخرفان، وضع قيدا ثقيلا في رجليها، وأغلق الباب وراءه (ص61). لقد برزت البطلة نعيمة كنموذج للذات المغتصبة داخل نسيج الرواية، بدءا
بالحرمان من الحق في الحب والحنان واللعب، عبر قنوات النبذ العديدة والقسوة
المفرطة الجرعات، إلى اغتصاب فعلي للجسد بمحاولة أولى كان بطلها زوج خالتها
(خديجة)، يقول الراوي كمت يد ضخمة فمها... أخذت تضرب الجثة فوقها بكلتا
يديها، تغرس أظافرها في اليد الخانقة لفمها... قامت الجثة من عليها تاركة
بللا فوق منامتها... تسرب إلى ما بين فخذيها لزج (ص95). وكذلك من طرف
سائق طاكسي الأجرة في شهر رمضان مد يده ليجذبها نحوه، رفعت رجليها وضربته
بعنف على صدره فسقط على ظهره... انطلقت تجري في الغيطان الموحلة، وتاهت عنه
في الظلام ص(116)، ثم المحاولة الثالثة لاغتصابها عبر زواج غير متكافئ من
أحد أقارب والدها، ستطلق منه بعد ثبوت تورطه في قضية اختلاس، وكذلك محاولة
اغتصابها من طرف المسؤول عن التعليم بالنيابة، إلى اغتصاب رهيب من طرف آخر
أكبر منه بالوزارة تقول الراوية: جرها إليه... احتواها بين ذراعيه يطبق
فمه على شفتيها بشراهة... قادها إلى غرفة النوم... وهو يلهث فوق وجهها يمتص
ما تبقى من قطرات دمها، وهي دون مقاومة (ص191). إلى اغتصاب الحلم،
وبالتالي تحولها إلى كيان محطم على الإطلاق، قنبلة موقوتة قابلة للانفجار
في أية لحظة بعدما هشموا عالمها الصافي، صرحا تلو صرح، ومعه تتلاشى
أحلامها بل حلمها بأن تصبح أستاذة الطب بالجامعة (ص194). بعد سلسلة الاغتصابات المتكررة، ستترسخ لدى نعيمة قناعة رهيبة عن الرجل
(الرجال) عموما، ونتيجة كذلك لرحيل يوسف (صديق) المفاجئ، واختفاء حب حياتها
(مهدي)، وذلك بالتفكير في الانتقام منهم، ومن جسدها، ومن خيانة أقاربها
(الأب) وعشيقها، كما جاء في حوارها مع عشيقها الخمسيني بعد عودتها إلى
الكلية لو لم يغدر بي هذا الوغد الذي أحببته حد الجنون، لما استجبت لطلبك،
ولكنه لا يستحق أن أخصه بعذريتي أو أن أحافظ له عليها. قلت لك أن ما سأقدم
عليه هو الانتقام منه (ص 185). إن التحول في حياة البطلة، بدخول سوق الدعارة الراقية، من خلال اصطياد
زبائن أثرياء وأغبياء، ببيعهم بكارة اصطناعية هو مشهد سيتكرر بنوع من
المتعة المرة باعت بكارة ركبتها لتوها عند طبيب تخصص في إجهاض الفتيات...
وتركت البكارات الاصطناعية (ص185)، وهكذا، وبعد محمد الغربي والبرلماني
والشاب الناظوري والأستاذ الجامعي، سيبرز انسلاخ البطلة عن ذاتها بكل
إرادتها، كانت تغتال... قيمها ومثلها التي آمنت بها حد قبلت الموت من
أجلها (ص186) فإذا كان زوحها السابق قد عمل على تقويمها وتهذيبها لتتحول إلى أيقونة
قاتلة في وقت وجيز، فإن عالمها الجميل واغتيال أحلامها كان الدافع إلى أن
تتحول إلى آلة للفتك الرهيب، لأنها لم تكن تتصور أن تموت على سرير من
احتمت به في وجه من استصغرها وسفك قهرا دمه (ص198). وسنلمس هذا القرار من
خلال ما برز من صراع نفسي مع ذاتها في مواجهة المرآة، حيث ستتجلى بوضوح
لعبة الأقنعة المحيلة على الانفصام والانشطار من خلال مخاطبة نفسها
نعيمة... لن أتركهم يقتلونك وينفذون إلى دواخلك، ارحلي عني لأفرغ لهم
(ص198). هو ما سيحولها إلى شهرزاد أخرى تقوم بدروها متسلحة بأسلحة جسدها
الفاتن، كما فعلت مع رواد المقهى، وهي تمارس عليهم ساديتها، حيث كانت تأخذ
ركنا تمارس فيه لعبتها بإتقان، تحسر الميني جوب عن فخذيها مشوبا لونها
الوردي بالحمرة التي تسبق شمس البحر في الصيف (ص207)، وكذلك دور زوجة
العفريت في ألف ليلة وليلة سأنتقم منهم واحدا واحدا، فلتلبسيني يا زوجة
العفريت (ص210). إن المسار الجديد لنعيمة سيولد العديد من المواقف المفارقة سواء من الحياة
أو الرجال، فمن خلال حديثها عن مفهوم الشرف عند الرجال تقول شرف الرجال
فقط (غال)، كل الرجال تأخذهم الحمية، وينتفض كبرياؤهم، ويعلنونها حربا
شعواء إذا لحقت أحدهم خيانة امرأة، ولا تهتز شعرة في رؤوسهم وهم يخونون
زوجاتهم مع ألف امرأة (ص211) وكذلك من المرأة في شخص عمتها يقول الراوي
كرهت المرأة القاهرة في عمتها لما ألحقته من إذاية بزوجة أخيها، وما سببته
من آلام لجدته (ص102) لكنه مسار سيعرف انتكاسا وعودة مفاجئة كذلك، بعد لقائها بيوسف، ومعرفتها
باعتقال مهدي في سجن القنيطرة رأيت مهدي... أنا قادم من القنيطرة، كنت
عنده بالزيارة... يحبك حد الوله (ص219) وهو ما سيعيد إلى الواجهة حبا
قديما يعيد بعضا من الاعتبار للذات، والإنسانية لصاحبتها، وهي ترمم أعطاب
كيانها المنهار، والمغتصب ببريق أمل، وحب جديد (قديم) أحبه. وما قلتها
ولن أقولها لأحد غيره، سأقولها له وأسمعها كل الدنيا، وأنا أناضل لأختصر
سنوات سجنه كي أهمسها له في أذنيه (ص 221). فنعيمة المتمردة على الذات والعادات والتقاليد، والمرأة المرتمية في أحضان
رجال عديدين سقطوا صرعى عشقها وضحايا لانتقام أعمى لم يكن ليثنيها عن حربها
الضروس مدفوعة بلذة الانتقام فتاوى الفقيه (مروان)، ولا صوفية أخلاق
اجتماعية... كانت تجعل الرجال يحترقون دون الوصول إلى جسده (ص 224). إن دوافع هذا التمرد، سواء على المعتقد أو الأخلاق، هو تمرد، بقدر ما رسبته
القسوة في لاوعي البطلة، كانت تنتابها من حين لآخر حالة من الصحو حين أصحو
أرتمي في أحضان رجال تعاقبت أجيال من النساء... انطفأت شمعتهم وسكن رمادها
وهم امتصاص دم زهرات برية يغذون به ذبالة لم تعد قابلة للاستعمال (ص224). إن هذا الإحساس بانهيار العالم الواهم، الذي كانت تعيش داخل قوقعته، مدفوعة
بروح انتقام أعمى، لم يكن ليثنيها في النهاية عن العودة إلى ذاتها وصفاء
روحها، رغم فظاعة ما أحدثته الرجة والانكسار وجدت مهدي، وجدت عشقي،
فأعادهم إلي جميعا، أعاد إلي سي مروان، وفي يده الكتاب، أعاد إلي أبي،
إخوتي جدتي، وها هي سلسلة الأم غيثة في عنقي، أعاد إلي نعيمة فينقا بعث من
رماد (ص 225)، وهي عودة تذكرنا بتناصها مع عودة النبي يوسف لأبيه يعقوب
عليهما السلام، كما جاء في قصص القرآن. كما أن تلك العودة تدفعنا إلى تحديد
طبيعة العلاقة مع مهدي، باعتبارها علاقة يملؤها الإعجاب والتقدير والتحدي
طوال مسار دراسي، علاقة ستتحول من تنافس إلى حب حقيقي، يتساءل الراوي نوع
آخر من التحدي دخلا فيه من غير أن يكون مكشوفا كالتحدي الأول، من منهما
يقدر على إخفاء حقيقة مشاعره عن الآخر؟ (ص 137). وسيفصح عنه مهدي أنا
أحبك يا نعيمة (ص 143) غير أنها لم تجد بدا من أن تبحث عن مجال للهرب ووضع
مسافة وهمية، غير أن مهدي لم يترك لها مجالا للهرب من حقيقة مشاعرها التي
أخفتها تحت مبررات عديدة (ص 145) لتقر بحبها له. - تجليات الملمح المحلي في الرواية بقدر ما أطرت الأمكنة العلاقات الأسرية، بقدر ما جعلتها أسيرة للطابع
المحلي، خصوصا مدينة مراكش ورياضاتها ومناراتها وبعض ساحاتها. وكذلك
الأماكن المحيطة بها مع إبراز جانب من تقاليد سكانها، وحياتهم في ستينيات
القرن الماضي. من خلال إبراز بعض الطقوس والعادات الأسرية كالأعراس
والحفلات والعلاقات الأسرية. فإذا تأملنا النواة الأسرية الكبرى لأسرة نعيمة قبل تشتتها، سنلمس أن
أسرة والدها السي أحمد تضم لالة الطام والغالية ومنصورة وأسية زوجة السي
عبدالله (أخ) وابنهما إبراهيم. كما كان البيت الكبير يضم جاريتين (ياقوت
وياسمين). في حين، نلمس نوعا من التعايش داخل نفس الحي بين الأسر المسلمة
واليهودية، من خلال العلاقة المتينة مع أسرة (يعقوب وزوجته غيثة). وسنلاحظ أن التحولات السياسية بالمغرب عموما، ومراكش خصوصا، ستعمل على تشتت
هذه الأسرة، من خلال مغادرة بيت الجد البيت الكبير لتشكل نواتها الأسرية
الخاصة. بانتقال السي عبد الله إلى بيت جديد، وملازمة السي أحمد وزوجته
فاطمة، كمرحلة أولى، سيتم بعدها انتقال الأخت والجاريتين بعد المرض النفسي
(لفاطمة) أم نعيمة. ومن البيت الكبير إلى الضاحية بإحدى المزارع (مسيوة)
بعد حادثة حرق سوق الأثواب أو السمارين). فداخل هذه الأسرة المتعددة والبسيطة، سنلمس سيادة المعتقدات الخاصة حول
الحمل والولادة والسحر والشعوذة وزيارة الأضرحة والرقية، والاستعانة بالطب
الشعبي لعلاج بعض الأمراض قبل الانفتاح على بدائل أخرى. كما ستعكس طبيعة
السلطة المهيمنة السلطة الذكورية كما هو الأمر بالنسبة للسي أحمد أب
نعيمة ومواقفه من تعليم الأنثى، وعلاقاته الخاصة مع بعض المومسات من خارج
مدينة مراكش الدار البيضاء، وسيكشف السارد عن علاقته بمومس بحي بوسبير،
وهي امرأة أحبها وضاق منها في نفس الوقت، فأقسم ألا يتزوجها إلا صغيرة
تراه وحده، وإذا أنجبت له بنتا، لن يسمح لها أبدا أن تبيت خارج البيت ولو
عند أقاربه (ص 21). كما ستبرز هيمنة من نوع آخر داخل هذه البيوت، من خلال سيطرة الأخت (عيشة)
على تسيير دواليب الأمور ببيت أخيها، وهو أمر حدث بالنسبة لأب نعيمة من
قبل، باتخاذ قرارات بدلا عنه، أو بالدفع به نحو اتخاذها مكرها، نزولا عند
رغبتها، عن طريق اللوم أو العتاب المقصود قابلت الوطنية حتى احترقت
الحانوت، وأصبحت تبيع اللي عندك... مقابل المرا تجري بها عند الطب (ص
21). كما سيبرز دور عائشة داخل عائلة السي عبدالله، من خلال ممارستها لنفس
المهام بنوع من الكاريزمية وإقصاء الزوجة لم يكن ( لأسيا) أي دور في البيت
على سعته، سوى القيام بطلبات زوجها، تهيئ له الوضوء، وإذا عاد من صلاة
الفجر بالمسجد، أوصلت له الفطور الذي هيأته الخادمة (ص 91) ولعل السلطوية ستفرز رد فعل مضاد من طرف كل من محيطها (ياقوت وياسمين)
اللتان لا تخفيان حقدهما عليها. تفجرانه في سخريتهما من تنكرها لحسبها
وحمل أولاد أخيها على ازدراء ما له ارتباط بأصولهم، وخلق نسب وهمي يمتد
تارة إلى الدوحة النبوية، وأخرى إلى الأندلس (ص 91) كما أنها كانت تؤمن
بالسحر والشعوذة وقد برز ذلك من خلال تأنيبها لنعيمة أنا ما بي الفولار،
بي فين اخذتو قليلة الخير، أنا باللقمة لفمها وهي بالعود لعيني، تاخذ
فولاري للسحارة جدته (ص 93). - طقوس واحتفالات نلمس أن الرواية قدمت لنا نتفا من لعب الأطفال خلال الفترة، إلى جانب بعض
الاحتفالات التي كان يحييها المغاربة كطقوس وتقاليد متوارثة، منها الأعراس
بحيث تبدأ الرواية بنقل تفاصيل عن عرس فاطمة أم البطلة، وهي فتاة قاصر في
ظرف استثنائي (نفي الملك محمد الخامس)، وهو العرس الذي مر في صمت فالأعراس
عموما تحييها فنانات من (الشيخات)، وأجواق مشهورة لمدة سبعة أيام، إلى جانب
الاحتفاء بالقيقة، وإقامة الولائم، نلمس أن الاحتفال بعاشوراء اتخذ حيزا
كبيرا يقول السارد إنها شعيلة عاشوراء، نار يتصاعد لهيبها إلى عنان
السماء... يقفزون في فرح لا يقاوم... هي العيد والفرحة... تراهن (الفتيات)
بعد أن خمدت النار وأعيا بعضهن التجول الليلي، يظهرن براعتهن في الرقص
والغناء لفتيات الأحياء المجاورة، اللواتي هن أيضا تحررن من عقالهن في يوم
عاشوراء (ص 20). - التعليم بمراكش من خلال الرواية تبرز الرواية الأوضاع التعليمية في ستينات وبداية سبعينيات القرن الماضي،
كتعليم اتسم في مجمله بالقوة والعنف البدني، حيث تبرز الشخصية الكاريزمية
للمعلم وسلطته المطلقة، إلى جانب التمييز بين الفئات الاجتماعية المختلفة.
تعليم بقدر ما رام الحفاظ على الهوية المحلية والوطنية من التغريب، لم يكن
تكوين المزاولين له وثقافتهم، أحيانا، تمنح الانطباع بمناخه الصحي لغلبة
النقل على استعمال العقل. ولعل أول صورة تطالعنا ببشاعتها في ص 29، حيث يرصد السارد طريقة تعنيف
نعيمة من طرف المعلم حملها المعلم من طوقها وألقى بها ممددة على بطنها
فوق المكتب، يد تسحب السوط من الخزانة، والأخرى تعري عجزها. لم يتوقف الشحط
المتوالي بهستيريا حتى تلاشت ضحكة التلاميذ وسط صمت جنائزي. فالعنف في المدرسة لم يختلف عن العنف في الكتاب (الحدار) يقول السارد عن
نائب الفقيه وضع السلك المشوك في قدميه، وثقهما بقطعة مستطيلة من الحديد
تمنع الرجلين من أن يلتقيا، جر من وسطهما سلسلة متينة ربطها في عمود مغروس
في الحائط... ارتفعت رجلا يوسف، وبدأ الفقيه في إنزال عصا غليظة عليهما حتى
أدمي (ص 46). كما تميز هذا التعليم بنوع من التمييز بين الأوساط الاجتماعية كانت مجموعة
من بنات دار المخزن والأعيان يجلسن على زربية حمراء إلى جانب الفقيه من
جهته اليسرى، بعيدا عن باقي البنات في الكتاب، وعن يمينه يجلس ذكور من نفس
الفئة... بلباسهم الإفرنجي (ص 40). وقد عرفت بعض المساجد باتباعها لطقوس خاصة في حفظ القرآن، كما جاء في
الصفحة 47 يقول السارد: (تسير نعيمة) إلى جانب الفقيه، لوحها على صدرها،
وعلى يمينه مهدي ابن أخيه يتقدمون صف الطلبة، وهم خارجون من الكتاب مثنى
مثنى، يتأبطون ألواحهم لابسون جلاليب بيضاء جديدة، وينتعلون بلغات ملمعة
(ص 47). وإلى جانب المسجد، تمت الإشارة إلى المدرسة والثانوية والجامعة كذلك،
فالطلاب يناقشون (في الحلقات) مسلحين بنوع من الوعي الثوري، ملمين بتاريخ
الثورات العالمية... والنظريات الفكرية والسياسية فرض على أستاذ المرحلة أن
يطور معارفه لتساير سعة معارف تلامذتهم، لم تعد منحصرة على ما يتفوه به
الأستاذ بل صارت لها روافد أخرى... (غير) محصورة في رحاب المدرسة والجامعة
(ص 135). ونلمس تأثير المحلي في الرواية كذلك من خلال هيمنة الأمكنة، وتعدد الإشارة
إليها وتنوعها، وقد استأثر باهتمام بعضها نظرا لفعاليته في تطور العديد من
الأحداث نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - الدويرية: وهي غرفة كانت خاصة بالرجال الغرباء عن العائلة، أو غير
المحارم عنهم، كما أنها غرفة محرمة على نساء الدار، باستثناء الخادمة التي
تنظفه (ص94). كما أنها برزت كمكان تعرضت فيه البطلة نعيمة للاغتصاب من
طرف زوج عمتها مما يفتح لنا المجال للحديث عن عقدة المكان وما يكرسه من
كراهية في الذات، يقول السارد: تذهب إلى الدويرية تشم رائحة الخوف الموحش،
وأنفاس كريهة الرائحة تحسها نازلة الدرج المعتم، تخفي صدرها بكتابها،
وتتحفز للعراك، لتنشب مخالبها في عيني الوحش المتربص به (ص 101). - ساحة جامع الفنا تعتبر فضاء أثيرا للاستمتاع بالحكايات في الحلقة باعتبارها ساحة محفوفة
بالأسرار والألغاز الدافعة لاقتحام عوالمها. وقد استأثرت الحلقة بمساحة
مهمة من الوصف وكذلك الحكواتي با عمر ص 105 الذي استمر تأثيره في البطلة
حيث كانت تتقمص بالبيت أدواره. إلى جانب أماكن أخرى كساحة بريمة والفران والحدار وقصر البديع والسوق
والمدرسة والثانوية وواد لحجر والكلية وبلاد مسيوة والمقرات الحزبية ودار
لبريشة وباب احمر وسيدي يوسف بنعلي وباب الرب وأمزميز والمقهى والقطار
إضافة إلى الدار البيضاء والقنيطرة والرباط (حي أكدال/ سجن لعلو) ومكناس
ومصر وإسرائيل وألمانيا... ونلمس أن الأماكن الأثيرة المرتبطة بمرحلة الطفولة والشباب انحصرت في
مراكش، في حين أن الخروج عن مجالها، في مرحلة أخرى، شكل نوعا من التيه
والجنون. وكأن المدينة الحمراء وفضاءاتها هي العاملة على خلق نوع من
التوازن الروحي في الشخصية المحورية نعيمة. - الكتاب تبرز الفضاءات المغلقة كأمكنة إما مثيرة للقلق أو مساعدة على التوتر، أو
تمنح الإحساس، في النهاية، بنوع من التذمر لوقوع أحداث مأساوية بها كما في
الدويرية، وسجن القنيطرة، وسجن لعلو، والكتاب... وهذه الفضاءات أبرزت نوعية
العلاقات المنسوجة والمؤثرة في صيرورة الحدث الروائي، وكشفت بالتالي عن
العقلية المغربية من خلال العديد من الأنوية الأسرية كأسرة نعيمة والسي
مصطفى المحامي والسي عبد الله وأسرة السي مروان وأسرة يعقوب اليهودي. لقد تحكمت الأمكنة في نسيج الطابع المأساوي داخل المتن الروائي في تشعب
علاقات عرت هشاشة الأسرة المغربية اجتماعيا، في ظل متغيرات المرحلة سياسيا
واقتصاديا، كمرحلة مخاض كبير، وذلك، في مرحلة ما بعد الاستقلال... كما
أبرزت التحولات الكبرى داخل هذه البنيات، وأنماط عيشها ومواردها وخلخلة
نسيج علاقاتها، لتتحول أسرة البطلة، مثلا، إلى أسرة تعيش خارج أسوار
المدينة كأسرة نازحة نحو الهامش بالقوة، أو كأسرة مهاجرة بالإكراه، كحالة
أسرة يعقوب اليهودي وزوجته غيثة. فالمكان سيفتقد بعض مؤثثاته الكبرى،
المتحكمة فيه، عبر زمن سحيق، في خضم تحول آخر ساحق، كما برز طبيعة عقلية
بعض الأسر المراكشية التي أضحت تعيش على عقدة تمجيد الماضي، كما هو الأمر
بالنسبة للعمة عيشة حيث نستشفه من حوار الخادمتين ياقوت وياسمين حول
النسب الشريف وحكاية الحاج الحسين (الجد) أن واحد جدودو هاجر من بلاد
مسيوة لمدينة فاس، وهناك ولد الأولاد... أنت عارفة بريمة عامرة بالشرفاء
والعوام وسطهم ما يقدرو يديرو مال ولا جاه، وهو ينسب راسو لمولاي إدريس (ص
92)، إضافة إلى تباهيها بعلو المقام، وامتلاك العبيد داخل البيت، في إشارة
إلى ياقوت وياسمين وإلى العبد الذي كان يحرس المنزل في عهد الجد. كما
نلمس الارتباط بالدوحة النبوية يوازيه ارتباط آخر بالأصول الموريسكية
الأندلسية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. إن تناص العنوان قلاع الصمت في دلالته مع الأمكنة يجعل منها قلاعا محتضنة
للألم والعنف والحزن والمآسي... قلاع معتمة تكشف عن فظاعة الحياة بها،
بعيدا عن نور الحقيقة، كما هو الحال بالنسبة لسجني لعلو ومعتقل القنيطرة
ودار البريشة وغيرها من الأمكنة التي تحولت إلى سجن إرادي، كما حدث بالنسبة
للبطلة نعيمة أثناء حبسها في غرفة من طرف المسؤول السامي في التعليم. - الاعتقال السياسي الوجه المظلم لملامح سنوات الرصاص بالمغرب
تتحول بعض الشخوص داخل الرواية إلى نماذج مثيرة لإبراز أشكال التضييق على
الحريات العامة، ومنها حق التعبير، وحرية التظاهر والاحتجاج. أنموذج بقدر
ما مثلته نعيمة باعتبارها بطلة الرواية، قد أثر عامل التنشئة في تمردها
واعتناقها للعديد من الأفكار الثورية من الواقع والحياة بدءا بالأسرة
المحافظة والمحيط، فإننا نلمس أن المؤسسة التربوية بدورها كانت فاعلا في
تكوين العقل المغربي كما برز في كتاب الفقيه سي مروان منذ الطفولة، والخال
عبد اللطيف، وهشان وبديعة (صديقتها في أ.و.ط.م)، وكذلك نتيجة لما راكمته من
مقروئها لأدبيات الفكر السياسي في مكتبة السي مصطفى المحامي يقول السارد
كانت الثانوية حقلا خصبا لاستنبات الفكر الثوري، وكانت بذرتها متجذرة
الغرس في عمق نعيمة (ص133) التي اكتشف فيها زملاؤها قدرة رهيبة على
الإقناع، والتأثير في الآخرين ناهيك عن القدرة على التحليل المنطقي وهو ما
أهلها بسرعة لتحمل موقع الزعامة في الثانوية (ص133) والإشراف على إحدى
الخلايا الطلابية وكانت مكلفة بإعداد مجلة محلية للنقابة الوطنية
للتلاميذ، وتنخرط في العمل السري الذي كان وراء حركة التلاميذ (ص133). فنعيمة التي صاغت المناشير، وشاركت بفعالية في المظاهرات (ماي 1972)، التي
أبرزت بعمق ما كان يتمتع به الطالب المغربي من مواقف رصينة وجادة تجاه
هزالة التعليم بالمغرب، وستبرز الإضرابات الطلابية قوة الحمولة الفكرية
والسياسية بالمقارنة مع هزالة التعليم ومقرراته. فالطلبة كانوا في الحلقات
يناقشون المادية التاريخية والصراع الطبقي ورأس المال وفي النقابات...
ثورة كوبا وحرب فيتنام وفلسطين وثورة الريف... وكل ثورات العالم...
(ص134). إنها الحركة التصحيحية التي ستطول الأساتذة الذين سيقتنعون بلاجدوى
المقررات بالبحث عن بدائل أخرى. فمعارف التلاميذ لم تعد منحصرة في ما يتفوه
به الأستاذ، بل صارت لها روافد أخرى كلغة مهربة وشعر محظور في رحاب المدرسة
والجامعة، ونقد تجاوز نظرية اللفظ والمعنى... وتاريخ يناقض ما حفلت به كتب
مؤرخي بلاطات السلاطين والوزراء وقواد جيوش الدول الغازية أو المستعمرة
(ص135). فالنضال السياسي كان يتم تأطيره في اجتماعات تنظيمية سرية بعيدا عن المدينة
بضيعة واد الحجر التي كانت في ملك أسرة مهدي ابن سي مصطفى المحامي، وهي
مكان تمت الإشارة إليه كمشتل سابق لتدريب الفدائيين على حمل السلاح إبان
الاستعمار. وقد تعرض جل منخرطيه لحملة تصفية وحسابات شخصية (ص 136). في خضم تلك الأجواء المشحونة، ستتعرض البطلة نعيمة للاعتقال اعترضها كمين
للشرطة وسيارات الجيب ملأى بالتلميذات والتلاميذ، وأغلبهم من قسم
الباكالوريا، امتنعوا عن دخول الامتحان، وحاولوا منع من جاؤوا برغبة
اجتيازه (ص 146). فإذا كانت نعيمة تمثل، داخل الرواية، نموذجا لنضال المرأة المغربية
المعاصرة، فإن يوسف، إلى جانب المعاناة من غياب نعيمة، سيدخل بعد سجن الذات
إلى سجن الواقع، في قلعتين من إسمنت وأسلاك مشوكة وأسوار عالية (ص 151)
بحيث تبرز صور سجن لعلو ومعتقل القنيطرة، يقول السارد طار يوسف فحط الرحال
في السجن لأنه صاغ في قصته كل مخزون ذاكرته مما روى أبوه، وأهل الحي من
أصحاب أبيه، ومن مشاهداته العينية من آلام فقد الأب وهو على قيد الحياة
(ص152). إلى جانب تعذيب يوسف، تبرز صورة أخرى للفقيه مروان ورفاقه الذين ذاقوا
فظاعات كبيرة داخل السجون لم يكن الفقيه وحده، كان له أصحاب ومريدون
انتهوا رماد نار عمياء لا تذر ولا تبقي غير الصوت الواحد. يخرجونهم مقيدين
بالسلاسل ويلقون بهم في النار... منهم (من) دفن حيا بسراديب دار البريشة
وكان ضمنهم أبوه... أحرقوا كتبه ثم خطفوه (ص152). إن التعذيب والتنكيل، بقدر ما طال الفقيه طال الطالب والسياسي الذي كره
السياسة ولعنتها، احتقر الحزب الأوحد وتبرم بالناس وابتعد عنهم كي لا يتأذى
بجهلهم (ص153). وإلى جانب اعتقال الأب وتعذيبه، سيتم اعتقال ابن أخيه (يوسف) بعد عودته من
ألمانيا الشرقية. يقول السارد وجد البوليس السري في انتظاره بالمطار
(ص154). اعتقال وجهت إليه فيه تهمة خيانة الوطن والدعوة إلى الكفر والإلحاد
وكتابة قصة موسومة بعنوان زرادشت في المدينة (ص155)، فتم حبسه دون محاكمة
حسب ما نلمسه من حواره مع مهدي في السجن. فالرواية بقدر ما تنتقد الشطط في استعمال السلطة، تبرز واقع المعتقلين
السياسيين بالمغرب وواقع شريحة واسعة من المغاربة عانوا من القهر والظلم
والبغي لم يكن يدري أن الوطن تحول كله إلى سجن للأفكار (ص165)، أفكار كان
أصحابها يؤمنون بها بقوة لأنها تنشد العدالة الاجتماعية، وإنسانية الإنسان.
كما أن أغلبهم لم يكن يعتنق عقيدة أو أفكارا غريبة عن تربة المجتمع المغربي
كما جاء على لسان يوسف أنا لم أكن يوما ما ماركسيا ولا اشتراكيا ولا أعرف
التنظيم الذي ألحقني به. من اعتقلني، وبتهمة لا أعرف (ص167). فسجن القنيطرة كان يضم مناضلين من منظمة 23 مارس وإلى الأمام ومنظمة لنخدم
الشعب والخيار الثوري والاتحاد الوطني لطلبة المغرب... وهم نسيج اجتماعي
سيتأقلم مع ظرفه الجديد ليخلق ظروف حياته الجديدة، داخل بؤر التقاء السياسي
والمعارض والمحايد... ولعل المفارقة التي يمكن أن نسجلها داخل الرواية قد
تعود إلى طبيعة المجتمع المغربي المحافظ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي
وعلاقته بالمخزن التي كان يحكمها طابع الخوف الذي يعشش في قلوب الناس
وعقولهم، يصيبهم الرعب من أصغر تابع لمقدم الحي (ص168) لأن معاقرة السياسة
نفسها كانت تعتبر عصيانا للسلطان، وعصيان السلطان انحراف عن أمر الله
بطاعة أولي الأمر وردة (ص168). وهذا الموقف سيعرف بدوره تغييرا كبيرا،
نظرا للتحول الذي سيعرفه المجتمع المغربي في علاقته بالمستعمر أو بالنظام
في مرحلة متأخرة ليدرك المغاربة أن السياسة من أمور الدنيا التي يجب الخوض
فيها سرا من غير خوف الخروج عن الدين إلا الخوف من المخزن (ص169) لانتشار
التعليم على نطاق واسع ليشمل شرائح كبيرة من المجتمع... وهو ما سيغير
النظرة ذاتها إلى مفهوم الاعتقال السياسي كذلك من عقاب إلهي ينفذه أصفياء
الله وأولياؤه والمخلصون للوطن، بل أصبح في عرف الناس ظلما واعتداء (ص169)
بعدما اكتوت بناره شرائح عديدة من المجتمع ومست عمقها وكرامتها. كما أن السجون ذاتها ستتحول إلى فضاءات لنسج علاقات جديدة، والانفتاح على
شرائح أخرى وأفكار مختلفة، يقول السارد على لسان يوسف اكتشفت أن للحبس قوة
خارقة على فتق المواهب والمشاعر، وتحويل الغياب إلى حضور دائم (ص172). في حين، كان يمثل بالنسبة للنظام الحاكم غير ذلك، يقول السارد عن ترحيل
يوسف إلى سجن القنيطرة - أنت معتقل سياسي. - معتقل سياسي؟ متى اعترفت؟ ومتى حوكمت؟ ومتى لفقتم لي التهمة؟ - أنت هنا تحرض المساجين على العصيان والكفر وسترحل إلى سجن القنيطرة عند
المارقين والكفرة أمثالك (ص165). - صور من المقاومة المغربية داخل الرواية
- مقاومة المستعمر يأتي الحديث عن المقاومة المغربية متفرقا داخل المتن الروائي، كحديث عرضي
لكن له دلالته البليغة في كون مقاومة المستعمر تمت بطرق عديدة ومن طرف
أفراد كثيرين اعتمادا على السرية والتكتم. وأول الإشارات نلتقطها من خلال
حديث السارد عن نعيمة التي احتمت بغرفة صغيرة تحت الدرج كانت زمن السيبة
مأوى للعبد الذي يحرس البيت الكبير بالليل، وفي عهد الحماية حولها أبوها
إلى مخبأ للسلاح (ص57). وكذلك عن مكان آخر في البيت في غرفة في علية البيت مبنية على شكل برج
منفرد... بها كوة قريبة من السقف، تنفتح على ساحة بريمة. كان الوطنيون
يترصدون منها حركات جنود المستعمر والخونة، حتى إذا تأكدوا من خلو المكان
أخرجوا السلاح من مخبئه (ص61). ونستشف من خلال حوار يوسف ونعيمة كشفهما عن وطنية والديهما مع اختلاف في
المقاربة والتصور، باعتبار أب نعيمة الموسر حسب السارد عندو لفلوس كيشري
بهم السلاح، وعندو الدار كبيرة كيخبي فيها الفدائيين (ص122). - الصراع مع النظام
في حين سيبرز الانتماء الحزبي لوالد يوسف حسب نعيمة كيقولوا باك شوري،
وجاء من مصر باش يقلب النظام، بعدما خرج الاستعمار (ص123)، وهو ما يكشف عن
طبيعة فئات الشعب المغربي التي منها من ناضل بأمواله، وآخر بمواقفه
وأفكاره، وهي الفئة التي يقول عنها السارد كانوا معارضين. أدركوا معنى
الاختلاف قبل الأوان. قالوا بالديمقراطية والناس مستأنسة بالعصا، يجري في
دمائها حكم الكلاوي والمقري، قالوا بحرية الإنسان في عصر النخاسة، جاؤوا
قبل زمانهم فاتهموا بالزندقة (ص123). كما برزت شخصية الفقيه مروان الذي حسب السارد صعد المنبر خاطبا في الناس،
إن اليد التي تمتد لتقبل يمكن عضها، وإن السكوت على ظلم مذلة، وإن القبول
بالجوع كفر، وإن اليد التي تسلم يمكنها أن تصفع وتقذف الحجارة، والفم الذي
يبتسم هو فم بإمكانه أن يصرخ ويحتج... إن الشورى ديمقراطية وإن الحق في
خيرات الوطن عدالة (ص125). - الكتابة والتوظيف داخل الرواية عملت الروائية حليمة زين العابدين على تضمين الأسطورة والتاريخ، والحكاية
الشعبية إضافة إلى الحلقة والاشتغال على التناص الحكائي وإقامة مفارقات
بليغة وعاصفة اعتمادا على مواقف من المعتقدات الخاطئة كالشعوذة والخرافات
والترسبات الخاطئة عن بعض الأشياء. - توظيف الحكاية والأسطورة: يتجلى هذا الطرح من خلال استحضار اللقالق على أسوار قصر البديع، وسوف يتم
ربطها بمفهوم المسخ، وأصل اللقلاق، حسب المحكي الشعبي، والتمثل عنه يقول
السارد أواه كل هذه اللقالق كانت ملوكا، اعتدت وظلمت، فمسخت طيورا باكية؟
أتراها تبكي لأنها حرمت قصورها وأصبحت تسكن أسوارها، أم تبكي ندما على
قتلاها؟ (ص 37). ويتم الربط بين الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي بالمغرب، خلال هذه
الفترة، من خلال استيعاب خاطئ لمفاهيم عن بعض الأشياء، وهو ما يبرز أن
الأفكار التي تمثلتها البطلة عن بقايا كراع البقر مثل يقول السارد كلما
رأت بقايا كراع البقر تعتقد أن اللقالق تتغذى (على عظام الموتى) ليلا...
فقد قال المعلم أن المقتولين غدرا يخرجون بالليل وينتقمون (ص37). وهناك تمثلات أخرى عن اللقلاق، كما جاء على لسان نعيمة عن أمها بأنه ابن
عرفة مسخه الله لأنه خائن. يقول الطلبة بالكتاب... كل الملوك الخونة يمسخون
لقلاق (ص40) وهو ربط تم انطلاقا من استحضار الواقع السياسي بالمغرب، بعد
نفي السلطان محمد الخامس. وستعمل الروائية على توظيف هذا الحدث واستثماره انطلاقا من الاسترجاع
واعتمادا على ذاكرة أحد الشخوص، باتخاذ التاريخ رافدا ومرجعية لحدث معيش أو
محكي عنه. كما جاء على لسان يوسف أو الله حتى عقلت عليه، شفتي ملي ضربوه
في الجامع (ابن عرفة)، كانت عندي عشر سنين، وشفتو، وجهو باقي دابا مصور
فراسي (ص41). فإلى جانب تمثل اللقالق، كمثال مذموم، ومغضوب عليه، يبرز التمثل البديل عن
اللقلاق كملك محبوب. يقول السارد لم يكن بوسع عقلها الطفل أن يحدد الفرق
بين ملك يحبه أبوها، وملك يكرهه. الأول ملك سكن القمر، والثاني ملك مسخ
لقلاقا، سكن فوق قصره (ص42). وسنلمس كيف تمت أسطرة بعض الأشخاص من خلال النقل الخاطئ عن حقيقتهم، أو
نتيجة لتحوير لحدث تاريخي، مثلا، عن معناه بربطه داخل سياق آخر قصد التنقيص
أو التقليل من شأنه كما هو الأمر بالنسبة لعيشة قنديشة التي تحولت مثالا
للذم والقبح، والترهيب، وهو ما سنلمس توضيحا له على لسان الفقيه السي مروان
عيشة قنديشة يا ابنتي وحيدة أنجبتها هذه الأرض، لها من الذكاء والقوة ما
لم يجتمع عند رجل. ورجالنا الذين تعودوا بخس حق النساء أبت عليهم عنجهيتهم
أن تكون امرأة، وتستطيع ما عجز عنه الرجال، يصورها جنية قاومت البرتغال
وأربكت جيوشه فنسجوا حولها الأساطير (ص80). وإلى جانب الأسطورة والحكاية الشعبية، نلمس الارتكاز على التناص من خلال
توظيف الموروث الحكائي العربي ألف ليلة وليلة، وتضمين أجزاء من حكايات
بعينها. وإذا كانت شهرزاد قاومت شهريار بالحكي لتأجيل الموت، فإن بطلة
الرواية نعيمة، كانت تقاوم عنف عمتها، وشخير ياقوت وياسمين (الخادمتين)
بالقراءة، يقول السارد تأتي إلى فراشها قبلهما، فتمهد لنومها قبل بدء
شخيرهما، تأخذ الجزء الثالث من ألف ليلة وليلة وترحل مع سفرة السندباد
السادسة (ص85). كما لمسنا التناص الحكائي متجليا في أسفار السندباد، مقارنة مع تنقل نعيمة
من بيت لآخر (بيت الوالدين/ بيت العم عبد اللطيف/ بيت غيثة اليهودية...)
وحياتها غير المستقرة وكوابيسها القاتلة، والمضايقات التي باتت تتلقاها من
طرف عمتها وأبناء عمها وكذلك الخادمتين أطفي الضو إلى أدرك شهريار الصباح
حنا راه دركنا الليل وخصنا نعسو (ص86)، وأثناء مقارنة نعيمة بين واقعها
وقصة زوجة العفريت في حكايات ألف ليلة وليلة. وهو ما يجعل التناص الحكائي
وسيلة لإبراز وقائع منتظرة، تبرز كيد النساء الأشد قوة وبأسا وقهرا من قهر
الأسر والاستغلال. لم تكن في ما مضى تستهويها أفعال زوجة العفريت التي تستغل نوم زوجها... تقف
في الطريق، تعرض نفسها على كل مار وتأخذ خاتمه (ص205). وينفتح النص الروائي على معطيات فن الحلقة من خلال تسلل نعيمة إلى حلقات
جامع الفنا وقد استحوذت على لبها حلقة أحد الحكواتيين وقفت خلف الجلوس في
حلقة الحكواتي، كان منهمكا في القص. استمرت واقفة مشدوهة إلى الرجل. كل
أعضاء جسده تحكي معه الحكاية، تتغير طبقات صوته مع عرض أقوال المسرود لهم
أو عنهم (ص104). ولعل هذا التأثير سنلمس امتداده العميق على شخصية البطلة نعيمة التي كانت
تحمل سيفا، وتمتطي فرسا. تنحني. تجلس أرضا. تقف. تحملها فوق بساط الأميرة
ذات الطائر، تركب الفيافي والقفار (ص105). إن التناص الحكائي سيصل حد تماهي الشخوص بعضها ببعض (نعيمة/ الراوي في
الحلقة) كما أن الغياب أو الموت سيكون له نفس التأثير، ونفس الحزن. إلى
جانب الحلقة، تحضر القصة داخل المتن الروائي من خلال الحكي عن يوسف
واستلهامه لشخص زرادشت كعنوان لقصته التي كتبها عن والده، وكذلك بين زرادشت
ونعيمة، كما جاء على لسان يوسف كلما جلسنا معا أحس فيك شيئا من زرادشت
(ص162) وهو أمر تنفيه نعيمة وتعيده لصاحبه سي مروان ألبست زرادشت عمامة
الفقيه، وأتيت به إلى المسجد، وزرادشت أعلن موت الله (ص164) وهي المآخذ
التي سيؤاخذ عليها البطل بتهمة الإلحاد. رواية قلاع الصمت رواية، بقدر ما تجمع بين طياتها إشارات إلى ثقافات
وانتماءات عرقية، تتعايش داخل نفس النسيج المجتمعي، بل وسط نفس الحي في
إطار علاقات إنسانية من تآزر وتعاضد وتعاون، تعلن عن خصوصية محلية وعن
عادات وتقاليد وأعراف وعن وقائع عرت عن أمل وآلام فئات عريضة من المجتمع
المغربي وعن أحلامها المجهضة.

حميد ركاطة / المغرب
|
|
|