دراسات روايات

قصص

شعر صاحبة الموقع

خاص 

فرنسية فن تشكيلي قصص شعر

مختارات 

Bookmark and Share
       

رواية قلاع الصمت لحليمة زين العابدين

قراءة  

الأستاذ: مصطفى سلوي

رزاية قلاع الصمت

هكذا تكلمت نعيمة

 

استطاعت الرواية المغربية، بفضل ما اجتمع لديها من تقنيات وتجارب وأسماء، أن تخوض في مجموعة من الموضوعات والقضايا، وأن تعيد النظر، بالاستعراض والتحليل والنقد، في مجموعة أخرى من الفترات التاريخية، ابتداء من الحقبة الاستعمارية إلى فترة ما بعد الاستقلال. وكانت قضية الإنسان المغربي، في جميع أبعاده الثقافية والحضارية والدينية والوطنية والاجتماعية، المحور الذي دارت حوله مجموع الكتابات السردية. إنه الإنسان المغربي الذي تتحول همومه وتتلون كلما تغيرت الفترة الزمنية التي تحتضنه. فهو الإنسان المقاوم للاستعمار الذي اغتصب حريته وسرق منه خيرات بلاده. ثم هو الإنسان الرافض لممارسات كل أولئك الذين استغلوا، أبشع استغلال، فترة الاستقلال؛ ليحققوا لصالحهم وصالح ذويهم الامتيازات والمصالح، حارمين بذلك الإنسان المغربي، في بعده الوطني، لذة الاستمتاع الفكري والمادي بما كافح لأجله واسترخص الغالي والنفيس في سبيل عيش يوم من أيامه.
وارتبطت الرواية المغربية بقضايا أخرى وطيدة الصلة بموضوع الإنسان المغربي؛ كالفقر والجهل والمرأة؛ وكلها جاءت مرتبطة بالظروف التاريخية التي كان الإنسان المغربي، في كل مرة، يمر منها. لقد ظل الإنسان المغربي، على لسان سارديه وفي عمق فكرهم، يبحث عن الذات التي تكتمل فيها صورته إنسانا حرا، منتصرا على قوى الظلم والجهل والفقر والتمييز بين الرجل والمرأة، مستطلعا الغد الذي يكون فيه الجميع على قدم المساواة أمام كائن عظيم جدا اسمه الوطن؛ بقدر ما ينطوي عليه هذا الوطن من مقدسات.
ولعل المراحل المتباينة التي كتبت فيها مجموعة من النصوص الروائية، هي التي جعلت كل نص يعكس مجموعة من الأطروحات والخصوصيات لا توجد في غيره، وقد تختص به لوحده لا تفارقه. وميزة النص الروائي المغربي، سواء الذي كتب في مراحل متقدمة- مرحلة التأسيس- أو المراحل المتأخرة- وهي بدورها مراحل تأسيس أطروحات جديدة على مستوى الأساليب وطرق المعالجة والنظر؛ للتواصل مع المتلقي في أحسن الظروف- أنه نص يمتاز بالتعدد على مستوى القضايا المطروحة، في حين يظل الموضوع واحدا فريدا: ذات الإنسان المغربي في مختلف أبعادها. فلم يكتف النص الروائي المغربي بالتعلق بالقضية الواحدة، وإنما طرح ساردوه مجموعة من القضايا، محورها معاناة الإنسان المغربي- والعربي بصفة عامة- الذي لم يستطع بعد أن يجد موضعا لذاته الحرة الشريفة الأبية وسط ساحة ازدحمت من حوله بذوات غريبة، لا عهد له بأخلاقها ولا طرق تعاملها ولا أسلوبها المراوغ في حب الوطن وأبنائه الذي باعوا الغالي والرخيص من أجله.
والذي يميز قلاع الصمت للروائية حليمة زين العابدين أنها الرواية التي طرحت، باتساع كبير، موضوع الإنسان المغربي في صراع مع ذاته وذوات أخرى تريد أن تطمس معالم شخصيته التي فيها يتجسد الوطن الحقيقي، الذي لا معنى لأي ذات خارجه. وفي ضوء هذا المحور الولود، طرحت المؤلفة مجموعة من القضايا، القديمة والجديدة، بدءا بالقضية الاستعمار، وقضية المرأة، والتعليم، والجهل، والفقر، والمحسوبية، والاستغلال، والفساد الذي يطال جميع الذوات التي لم ترضع حليب الوطن، ولم تتمسك يوما بثديه.
وزادت (قلاع الصمت) على كل هذا قضية الحب التي ، بالرغم من تواجدها الدائم في كثير من النصوص الروائية المغربية، إلا أنها هنا طرحت بشكل بديع يكاد يكون بكرا؛ سواء تعلق الأمر بالعمق أم بطريقة الطرح. لقد استطاعت الساردة أن تجعل من قضية الحب (لحاما) تربط بواسطته بين كل القضايا التي وقفت عندها. ثم إن الحب لديها ألوان وأشكال متكاملة متناغمة، بدءا بالحب الطفولي، وحب الأم، وحب الأسرة، وحب الله، وحب الوطن، وحب القضية والمبدأ، وحب العلم، وحب الإنسان في صفاء سريرته ونقاء فكره وعلو همته، بغض النظر عن عقيدته أو جنسيته. ويبقى الغائب الكبير من بين جميع أنواع الحب هذه حب الزوج أو الحبيب. فقد أجلت (نعيمة) حب الحبيب، لتبوح به الساردة في الصفحات الأخيرة من الرواية؛ إذ لم يكن ل (نعيمة) الوقت للتفكير في مثل هذا الحب؛ فهي مرهونة بالحسم في مجموعة من القضايا التي من شأنها أن تعكر صفو هذا الحب. ثم إنها لم تكن أبدا على استعداد لمعانقة هذا الري، في الوقت الذي تخوض فيه خيولها معارك ضارية ضد مجموعة لا متناهية من (قلاع الصمت). أما الزوج، فهي عرفته قهرا، واعتنقته جبرا لا اختيارا؛ لهذا لم يكن له في قلبها، المأخوذ بأمور أخرى أهم، مكان. بل إنه كان سببا في مجموعة من الخطايا التي استطاعت (نعيمة) أن تخرج منها منتصرة؛ لأنها، بعد الاحتراق الذي عاشته منذ خرجت قطعة لحم صغيرة من بطن أمها وواصلته عبر احتراقات أخرى متوالية، استطاعت أن تحقق ذاتها؛ ذاتها التي استعادت من بعيد نقية جميلة مفعمة بمعاني الحب والإخلاص. فلا يهم أن يحترق الجسد إذا كان سيخلف وسط رماده ذاتا عفيفة الفكر، تعرف نفسها وتحمل شهادة ميلاد جديدة كتبت معلوماتها الذاكرة.
وزادت رواية قلاع الصمت قضية أخرى قلما اهتم بها الساردون، بالأسلوب نفسه الذي جاءت به حليمة زين العابدين، وهي التسامح الديني الذي عُرِفَ المغرب حصنا له منذ أقدم العهود. ف (غيثة) و(يعقوب) اليهودي أنهما من أقرب الناس إلى قلب (نعيمة) والسي (مروان) الذي يمثل في الوقت نفسه الجانبين الديني والمعرفي. فهو لا يتأخر عن السؤال عن (يعقوب) حين مرض. وكذلك الشأن بالنسبة لأب نعيمة الذي يعمل بنصائح وتوسلات جاريه اليهوديين، ويتألم (السي مروان) لكل مصاب يصيب هذه الأسرة التي ستورث نعيمة (دارها)، في الوقت الذي كان (جبريل) عليه الصلاة والسلام يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار، حتى قال الرسول الكريم: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). غير ان الذي ورث الآخر في (قلاع الصمت) هو الجار اليهودي.
ليس المقصود من كل هذا أن نكتب عرضا لأهم القضايا التي طرحتها (قلاع الصمت)، قلاع استطاعت الساردة أن تفتح مجموعة منها وترفع فوقها أعلامها، ولكنني أردت أن أنطلق من هذه الميزة التي حازتها الرواية، وقلما اجتمعت في غيرها من الأعمال السردية. لقد عملت الروائية على خلق شبكة معقدة من العلاقات، تشد بواسطتها قضايا الرواية الكثيرة والمتنوعة، وموضوعَها الكبير: تحقيق الذات والانتصار على مختلف مظاهر الصمت التي شيد لها البعض، في هذا الوطن، قلاعا منيعة في الظاهر، هشة خربة من الداخل. وحتى في المشاهد الأخيرة من الرواية (الفصل الرابع)، حيث يظن القارئ أن (نعيمة) انكسرت واستسلمت للمصير المحتوم، وغيرت، كباقي الناس، جلدتها، نجد أن ما آلت إليه (نعيمة) ما هو إلا مظهر من مظاهر قوة الإنسان، الذي يحمل بين ضلوعه قضية من القضايا، على استخدام النموذج وصورته الثانية؛ هذه الصورة التي ستتوج جميع الانتصارات وترقص رقصاتها على شر لا يستحق أن يعيش في جلباب القدسية الكاذبة.
لقد شيدت الكاتبة بناء روايتها السردي المتنوع على مجموعة من المقومات، أهمها أربعة، هي: مقوم الحكاية بما يحيل عليه من شخصيات وأحداث وأفعال وزمان ومكان، ومقوم الاسترجاع، ومقوم الوصف، ومقوم الحوار. وتحرص المؤلفة على أن تكون (سيدة) الحكي في الأول والآخر؛ فهي التي تمسك بخيوطه، ولكن لا بأس إن هي تركت زمام هذا الأمر بين يدي (نعيمة) التي تعرفها حق المعرفة، ولا تشك لحظة واحدة في أنها ستسير بالحكي إلى المقاصد نفسها التي سطرتها حليمة زين العابدين. فهي صوتها المدوي الصادع حين يستولي سلطان الصمت على كيان الساردة، فلا تستطيع له تكسيرا.
لا يشك أحد في أن أي تقعيد يمس الفنون الأدبية أو غير الأدبية، إنما ينطلق في الأساس من الممارسة الإبداعية التي يشيد صرحها الفنان المبدع. الشيء الذي يجعل الشاعرَ يعمل بقواعد الشعر، وإن لم يعلم بها وقد يكون عالما بها، والساردَ مدركا لقواعد السرد. هذا ما قد يتبادر إلى الذهن، حين نعلم أن جميع ما استنبط من قوانين علم السرديات إنما كانت انطلاقته من استقراء النصوص الروائية والحكائية والقصصية الفصيحة وغير الفصيحة. بمعنى أن السارد، كلَّ سارد، يؤسس في سرده جملة من القوانين والإجراءات، قد لا يكون هو نفسه واعيا بها، فيأتي الناقد/ القارئ ليظهرها أساسا في البناء السردي الذي سارت عليه الرواية.
فنحن حين نقرأ نصا روائيا، فإننا نعول أكثر ما نعول على الجانب السردي في ذلك النص، وليس على الحكاية التي مهما بلغت من الغنى والتنوع، تبقى مجرد مادة خام في حاجة ماسة إلى العقل الماهر/ السارد، الذي يقدمها بين يدي القارئ في صورة تنفث السحر وتحمل المتلقي على البحث عن الدلالات والخطابات بين ثنايا هذا الإجراء أو ذاك، وليس فيما يُحكى أو يقال. من هنا وجدنا أن الذين يكتفون بكتابة أو قراءة نص حكائي؛ أي يقوم على الحكاية، هم أبعد ما يكونون عن الحكي في مستوياته العالية، من الذين يكتبون أو يقرؤون نصا سرديا؛ يفتقون دلالاته وينتقلون بها من حال إلى حال، عبر ما يوفرونه لذلك النص من قواعد وأدوات وإجراءات.
إننا نفرق في الكتابة السردية بين نص يروي حكاية رواية فطرية، ونص يسرد حكاية بطريقة عالمة؛ سواء شَعُرَ السارد بذلك أم لم يشعُر. و(قلاع الصمت) من هذه العينة من النصوص السردية التي وفرت لمحكيها ما يلزم من الأدوات والإجراءات؛ إلى درجة يتحول فيها القارئ إلى مشارك للكاتب في محكيه. فهي لا تكتفي بتقديم دلالاتها ورسائلها من خلال ما ترويه من أحداث وأفعال ومواقف فحسب، بل وأيضا من خلال طرائق السرد المتنوعة التي وفرتها الساردة وتفوقت في تنظيم مكوناتها. والحكاية مخزون متمركز في ذاكرة السارد، يتصرف فيه بالمقدار الذي يسمح له بإطالة عمر الرواية أو القصة، والإبقاء على خيط التواصل الذي يربطه بالمتلقي وبنفسه قبل ذلك. فكل حكاية هي أولا وقبل كل شيء جزء من حياة السارد، سواء عاش كل تفاصيلها أو بعضَها؛ إذ ليست هنالك حكاية تقع خارج حدود السارد، ذاتا أو تجربة أو إحساسا مشاركا. إن المرآة التي تنعكس عليها صورتنا بكل تجلياتها جزء من حياتنا؛ بدليل أنها لم تُصنَعْ إلا لنرى أنفسَنا فيها.
ثنائية الفعل والحدث:
يتميز الفعل عن الحدث من خلال مجموعة من الأمور، أهمها: أن الفعل خصوصية من أبرز خصوصيات الشخصية الروائية/ التي تعبر كيانا ووعيا داخل النص السردي. فلا يمكن للشخصية أن تأتي أفعالا لا تعيها، وبالتالي، فالوعي بهذه الأفعال هو في حقيقة الأمر تجل من تجليات وعي السارد الذي يجد في ما تأتيه شخصياته من أفعال وتصرفات مرتعا خصبا ومساحة حرة شاسعة؛ لعرض مواقفه، وبث القارئ خلجات صدره، وتزويده بما يرغب من الرسائل التي ما جاء النص الروائي إلا ليكون معبرا إليها.
ويعمل الفعل، انطلاقا مما هو مشحون به من وعي، من جهة ثانية على تطوير حال الشخصية، ونقلها من وعي إلى وعي آخر جديد؛ فهو الفاعل الأساسي في نمو العمل الروائي وانتقال أحداثه وشخوصه وأزمنته وأمكنته من وضع إلى وضع آخر. الفعل بهذه المميزات هو المسؤول على تجديد صورة الرواية وانتقال أحداثها ومشاهدها من السلب إلى الإيجاب، ومن الإيجاب إلى السلب.
أما الحدث، فقد يكون من صنع الشخصية، وهو قليل، ويكون طارئا عارضا من صنع الطبيعة أو الصدفة أو غير ذلك مما لا دخل للإنسان فيه. ومن هنا تكثر الأفعال في كل عمل سردي، وتقل الأحداث؛ كما هو الشأن في (قلاع الصمت) التي تشهد ازدحاما على مستوى الأفعال، بالرغم من كثرة أحداثها التي جعلت منها نصا ذا نفس طويل. بل إن كثرة الأفعال في هذه الرواية خولتها ميزة النص الحي المتحرك المتفاعل منذ السطر الأول.
لقد استطاعت شخصية (نعيمة) أن تجعل من نفسها محورا، يولد الأحداث، وتأتي من الأفعال ما يحمل الشخصيات الأخرى- رئيسة أم ثانوية- على إتيان ما لا حصر له من الأفعال. كل ذلك لأجل مساعدة هذه الشخصية الفريدة على التحول والتطور والانتقال عبر مجموعة من الأوضاع. إن كثيرا من الأفعال التي لم تسمح الساردة بأن تكون (نعيمة) هي التي تأتيها، عملا بتقنية تبادل الأدوار، حولتها إلى جهة شخصيات أخرى؛ خاصة: (مهدي)، و(يوسف) و(السي مروان) و(غيثة)، وهي وحدها التي قبلت الساردة أن تتبادل الأدوار مع الشخصية المحور (نعيمة).
وكثرة الأفعال وتشابكها عبر مجموعة من الأحداث والأمكنة والأزمنة في (قلاع الصمت)، تجعلنا أمام نص دسم جدا، تعبر فيه الساردة، بكل ما أوتيت من (ذاكرة حكائية)، و(تقنيات عالمة)، وحس بارع في التنظيم والترتيب والتعليق، عن حقبة زمنية طويلة، ليس من الهين اختصار أحداثها في مثل ما اختصرته الكاتبة حليمة زين العابدين. ثم إن دسامةَ هذا النص، والحقبة الزمنية التي يغطيها، وتنوعَ الأمكنة وتلاحقَ الأزمنة، وكثرةَ الشخصيات وأفعالَها، وازدحامَ الأحاسيس والمشاعر وتضاربَها، وتباينَ مظاهر ومواقف الصراع بين الشدة والانفراج؛ كل هذا يجعلنا أمام نص من (النمط الفيلمي)، الذي تتعدد حلقاته وتتنوع مشاهده، يغري في كل مرة برؤية جديدة، قد تطابق أو لا تطابق أفق انتظار المتلقي. لقد تمكنت حليمة زين العابدين، بفضل صبرها- وكانت في حاجة ماسة إلى شحنات عالية منه- وإتقانها تنظيمَ وترتيبَ مكونات مَروِيِّها، من أن تملي على القارئ- كما كان يفعل (بالزاك)- شروط قراءتها، بل والتأثر بشخصياتها إلى حد البكاء معها، والدعاء لها بالاستواء على كل من يقف في وجهها.
واللافت للنظر أن الازدحام الذي تشهده (قلاع الصمت) من جهة الأفعال والأحداث، يطابق الثراء والازدحام الحكائي المتواجدين في ذهن/ ذاكرة الساردة. فهي الدم الذي يجري في عروق كل شخصية من شخصياتها، سواء تعلق الأمر بالطفلة، أم بالتلميذة الذكية، أم بالأم الولهى، أم بالأم المحتضنة، أم بالفتاة/ الشابة المناضلة التي ترفض جميع أشكال الظلم والتمييز، أم بكل الصور التي تمر بالقارئ في هذا النص العجيب. حتى (السي مروان) و(مهدي) و(يوسف) فيهم جرعات فياضة من دم الساردة؛ لهذا قلت إنها كانت تسمح بأن تجري بعض أفعال (نعيمة) على يد أصدقائها وأقرب الناس إلى قلبها، وهم في حقيقة الأمر قريبون من هذه النفس الكبيرة التي استطاعت أن تحتضن كل هذا الشتات وتعبر عنه بأروع ما وجد من التعبير والتقنية والخيال. وتقوم علاقة الفعل بالحدث في (قلاع الصمت) وفق أسلوبين متكاملين، يتبادلان أدوار تطوير العمل السردي، هما:
أولا: الأسلوب التصاعدي الذي يتم فيه، غالبا، الانطلاق من حدث يمس أو تشهده شخصية من شخصيات الرواية؛ وهو نفسه الحدث الذي يستحث مجموعة من الأفعال وردود الأفعال، تتوالى داخل متواليات، يحكمها المنطق، ويكون فاعلها الشخصية، محورها الحدث، وغايتها الخروج من وضعية إلى وضعية جديدة. وهنا يكون التركيز بالدرجة الأولى على الشخصية التي تقوم بجهود مضاعفة. والحق أن السارد هو الذي يتحمل عناء هذا الجهد ويدفع ضريبته غالية؛ لأنه مطالب بمراقبة شخوصه التي تمارس فعل تحولها. واستطاعت حليمة زين العابدين أن توفق إلى حد كبير في هذا الأسلوب؛ بفضل ما أوتيت من صبر على تحمل أعباء السرد وفق هذا الأسلوب الشاق؛ ولعله الأسلوب الغالب على المتن الروائي.
ثانيا: الأسلوب التنازلي الذي غالبا ما يلجأ إليه السارد، بالرغم من أنه قد لا يعي هذا الأمر بالمرة، قصد الاستراحة من الأسلوب الأول. وهنا يتم الانطلاق من فعل الشخصية أو أفعال مجموعة من الشخصيات. والغاية من هذا التغيير في أسلوب الانطلاق صنع حدث أو مجموعة أحداث، من شأنها أن تحرك لدى الشخصيات عددا لا متناهيا من الأفعال وردود الأفعال. ولا يحتاج السارد في مثل هذه الطريقة إلى تكثيف حركة الفعل، إذ أنها وُجِدَتِ مع انطلاق المشهد؛ وما يجب القيام به هو انتظار الفرصة التي ينبلج فيها الحدث، ليتدخل السارد لتوزيع الأفعال على الشخوص. وقليلا ما كانت الكاتبة تلجأ إلى هذه الطريقة؛ لما يحققه الانطلاق من الفعل من صراعات وردود أفعال متباينة، هي في أمس الحاجة إليها. ثم إن الذاكرة الحكائية بمقدار ما لديها من أحداث، فإن كل واحد منها يستدعي ما لا يمكن الإحاطة به من الأفعال. والجمع بين الأسلوبين هو الذي يحيلنا على طريقة السرد بالتوالد الدائري، حيث إن الانطلاق من الفعل بغية بناء الحدث، هو نفسه الحَلَقَةُ التي تسلمنا إلى أن يصبح الحدث مدعاة لانهمار متواليات لا حصر لها من الأفعال وردود الأفعال، وهكذا. وقد بنيت (قلاع الصمت) وفق هذه الطريقة التي جعلت الساردة تشقى كثيرا في إنجاز عملها× فليس هنالك فضاء أو متنفس للاستراحة، وكذلك الشأن بالنسبة للقارئ الذي لا رغبة لديه في الانقطاع عن مواصلة القراءة؛ لمعرفة الحقيقة. وهو الشيء نفسه الذي حدث للكاتبة حليمة زين العابدين التي كانت تسابق السطور والصفحات؛ لتفرغ ما بصدرها، وتصل ب (نعيمة) إلى الاستواء على ما استطاعت الاستواء عليه من (قلاع الصمت). ولعل من أبرز ما زاد في تعقيد مهمة الساردة، وقد اختارت بنفسها هذا المرمى الصعب، عن وعي أم عن غير وعي، تقنية الاسترجاع المتواصل والمكثف؛ حتى إن الرواية نصفها استرجاع، ونصفها الثاني كتابة تروي أفعال الشخصيات بصورة مباشرة. ولم تكن الساردة تأتي بهذه المقاطع المباشرة- وهي نصف الرواية- إلا لجعلها ذريعة لتحقيق الاسترجاع، أو خطاب الذاكرة الذي يحتل مكانة هامة في قلب الساردة. فهي لم تكتب إلا لتسترجع وتروي ماضيا كان، لا يجب أن يُنسى؛ بل وَجَبَ استحضاره؛ ليصيب التحول قلاعا باتت صامتة. إن أول ما تبادر به الكاتبة في أول صفحة من صفحات الرواية الاسترجاع؛ وما وجدتها إلا ذكية متأنقة متفوقة فيما أقبلت عليه.
ذاكرة واسترجاع
يتخذ الاسترجاع مكانا متميزا في (قلاع الصمت). فهو عنصر فاعل ومولد داخل البنية السردية للنص، سواء تعلق الأمر بالجانب الكمي المسترجع، أم بالجانب الفكري الذي يعكس دسامة لم نجد مثلها في القسم الواقعي المباشر. وإذا طُلِبَ مني مثل هذا الاهتمام الكبير بالاسترجاع تقنية من تقنيات الكتابة والبوح داخل (قلاع الصمت)، قلت: قد تكون لذلك علاقة بالذاكرة، ذاكرة الساردة، التي مهما أجهد المتسلط نفسه وأفنى وسائله في إخماد صوتها، ظلت حافظة لكل ما حدث؛ فهي دوما تتذكر الذي وقع، وتعود إلى الماضي لتنبش فيه عن أشياء تسترجعها، لأنها لم تمت أبدا. وبالرغم من أن جزءا كبيرا من رواية (قلاع الصمت) كتبته الذاكرة المُستَرجِعَة، إلا أنه الاسترجاع الذي تتأسس عليه الحياة الحاضرة؛ إذ لا فضل لأمة تفرط في ذاكرتها، ولا حياة لإنسان يضع نفسه خارج الذي حدث وبعيدا عما يحدث، لأن الذي يحدث الآن وسيحدث في الغد، مؤسس على ما حدث من قبل.
ويحضر الاسترجاع في (قلاع الصمت) ضمن موقعيات مختلفة، تبعا لحاجة الساردة إليه وإلى منافعه. فهو تارة مفتاح لمقطع سردي لن نعلم بحقيقته المباشرة إلا بعد صفحات من القراءة كما هو الشأن في مستهل الرواية. ويأتي تارة أخرى ليتوسط المشهد السردي، ليشكل حلقة رابطة (واعية) بين موقفين حكائيين مباشرين. كما يأتي قفلا تغلق به الساردة مجموعة من المواقف الروائية المباشرة؛ وهذا نادر جدا في (قلاع الصمت) التي شاءت إرادة الساردة أن يكون الاسترجاع فيها مالكا قلب الحدث الحكائي، سواء جاء في البداية أم في الوسط.
وتحرص الكاتبة، في كل استرجاع، أن تتعامل مع الشخصيات نفسها التي وُجِدَتْ في المشهد الواقعي وانبثقت منها حركة/ فعل الاسترجاع. وتكون (نعيمة) في كل مرة الشخصية التي تسترجع؛ ووحدها (نعيمة) التي خولتها الساردة هذا الحق الثمين الغالي. ولو لم تكن للساردة كل الثقة في هذه الشخصية/ المرآة لما سلمتها زمام الذاكرة. فهي تسترجع، ولكن وفق اتفاق. لقد أطلعت الساردة (نعيمة) على كل شيء، وتعاهدت معها أن لا تحكي وألا تسترجع إلا ما حصل الاتفاق عليه. طبعا لا وجود لهذا الاتفاق في الرواية، فهو ميثاق ذهني أخلاقي عقدته الساردة مع جميع شخوصها، خاصة شخصية (نعيمة) الذكية، المعاندة، الصبورة فوق كل التقديرات، المناضلة في جميع سوح الحياة، الغريبة، العجيبة، الجميلة، التي تسحر بالفكر أولا، وبالفعل ورد الفعل ثانيا، والصورة بعد ذلك.
لقد علقتني هذه الشخصية، وأضع وزر التعليق هذا على كاهل الساردة (سامحها الله)، علقتني بفكرها ونضالها، حتى إنني بتت أقول: ما قرأت عن امرأة فأحببت أن أراها إلا (نعيمة). لم يشدني الوجه الجميل، والقوام الرشيق، والزينة الفاتنة، وجميع ما تعلمته هذه المرأة/ الطفلة من دروس الرقص الغربي والشرقي، وما أتقنته بخصوص أساليب المشي؛ فقد أحببتها حين كانت طفلة (قرعاء)، على يدها تنطبع عضة الكلب، وملابسها متسخة بالرغم من أنها من الثياب المستوردة. أحببتها مشاكسة، متهورة، تقفز إلى الماء قبل الذكور، تصرعهم الواحد تلو الآخر. ولا أنكر أنني أحببتها أيضا في الذي تحولت إليه فاتنة ساحرة تستعيد ذاتها وتضرم النار في الجسد الفاني وفي كل الأجساد، لتعود إلى وسطها وطينتها النظيفة (نعيمة) المنتشية بما حققته من انتصارات.
لقد فَضَّلَتْ أن تحترق، وظلت تحترق مذ خرجت من رحم أمها، لتتربع كلُّ ذات عرشَ نفسِها. لهذا حُقَّ أن يقال في هذا النص: (هكذا تكلمت نعيمة)، قياسا على (هكذا تكلم زرادشت)؛ القصة التي كتبها (يوسف) وأودِعَ بسببها السجن. إنه يعيد ونعيمة، هما معا، يعيدان كتابة ماض بكل جراحاته؛ للظفر بحاضر يعد بكل ما هو جميل وصاف. أيهما كتب (هكذا تكلم زرادشت)؟ وأيهما كتب (هكذا تكلمت نعيمة)؟ (هكذا تكلم زرادشت) أخبرتنا الساردة أنها ل (يوسف)، وما تكون (هكذا تكلمت نعيمة)؟ ل (نعيمة) أم ليوسف أم للساردة. مهما يكن من أمر: يوسف أم نعيمة أم حليمة، كل هذا لم يعد يكتسي أهمية لدي كقارئ، مادامت كتابة (حليمة)، وأفعال (نعيمة)، وأفكار (السي مروان) بلغوا القلب والعقل معا.
نسيت أن أذكر لكم أن تقنية الاسترجاع قد تزيد من متاعب عمل القارئ، خاصة الذي لا يملك صبرا وذهنا يقظا يمكنانه من إدراك مختلف الارتباطات الموجودة بين الحكي المباشر والحكي الواقعي. غير أن العمل وفق هذه التقنية ينم، في بعد آخر، عن قوة الساردة وتمكنها من أدواتها واختيارها الاشتغال ضمن النمط الصعب الذي يمزج بين الاسترجاع والحكي المباشر مزجا يصل إلى درجة توهِمُ أن المُسْتَرجَعَ حكيٌ مباشر.
من هنا أعود لأذَكِّرَ بأن حقيقة البناء السردي في (قلاع الصمت) تقوم على حكاية إطار كبرى يتقاطع فيها المحكي الواقعي والمحكي المسترجع. ويكون الانطلاق دائما من حكاية نواة، يخرج أحد شخوصها من زمن الأحداث إلى زمن الاسترجاع، حيث أمكنة أخرى وشخوص أخرى وأحداث أخرى. وبهذا نلج عالم حكاية جديدة قد تتولد عنها حكايات أخرى واسترجاعات جديدة، وهكذا. ثم تعود الساردة لتضع قفلا لكل حكاية مصدرها الاسترجاع، بغية العودة إلى الحكاية النواة التي تم الانطلاق منها ابتداء. وهذا شكل شبه دائري ممتع جدا في صنعة السرد، غير أنه متعب جدا، للسارد كما للقارئ، ويحتاج إلى صبر وطول مراس وتمكن من أدوات الحكي.
ويمكن القول بأن الساردة استفادت استفادة جمة من تقنية الاسترجاع، فهي جسرها نحو الماضي/ الذاكرة، وهو الذي يسمح لها باستعادة جميع (القلاع)- قلاع الصمت-؛ وما أكثرها، حتى إن الساردة ربما تجاوزت كثيرا من هذه القلاع. واللافت للنظر أن (قلاع) حليمة زين العابدين كثيرة ومتباينة من حيث الأهمية والخطورة. فهي لا تقتحم كلها بالأسلوب نفسه، ولا بالسهولة نفسها، ولا بالشخصيات نفسها. ومن هذه (القلاع) عينة لم تتمكن (نعيمة) من رفع ألويتها من فوقها، فاكتفت (حليمة) معها بالمهادنة والمصالحة؛ ربما لأن الوقت لم يحن بعد لاقتحامها؛ على الأقل ليس في هذا السرد. والملاحظ أن أعتى قلاع (نعيمة) موجودة في الفصلين الأخيرين من الرواية، بينما تضمن الفصل الثاني نوعية من القلاع أقل تمنعا، في الوقت الذي عكس فيه الفصل الأول نوعية القلاع الميسورة. أما من حيث الكم، فنلاحظ العكس تماما، حيث كلما انطلقنا من بداية نحو نهايتها، إلا وتضاءل عدد هذه القلاع؛ فهي كثيرة في الفصل الأول، وأقل من ذلك في الفصول الأخرى. ولا أشك لحظة واحدة في أن الساردة/ السارد كانت في حاجة ماسة، خاصة في الفصل الثالث، إلى تقنية الحذف التي أسعتها كثيرا في القفز على مجموعة من الأحداث، وعدد آخر من القلاع.

الدكتورصطفى السلوي  / المغرب

محور جميع الروايات

 2. قلاع الصمت/ قراءات

مصطفى سلوي
هكذا تكلمت نعيمة
 
بلقاسم الجطاري
الكتابة وتكسير جدار الصمت
نور الدين بوصباع
الزمن والكتابة
أسماء بنعدادة
بلا نهاية

حميد ركاطة
الذات المغتصبة
 
الاتصال

 

Conception _ Création _ Desisgn: Halima Zine El Abidine