4.
حلم معتقل سياسي
( أستاذ في الجنة)
قصة قصيرة
طابور عريض طويل، على يمينه آخر يماثله في الطول، وإلى يساره مشابهه وآخر،
وآخر... ينتهي العد ولا تنتهي الصفوف، شمس محرقة، سيل من العرق يجرف ما تبقى من
جسد ضحل من هوس التفكير في تحويل الحلم حقيقة.
كنت آخر الطابور لا تدرك عيناي أوله. تجر قراطيسي المحمولة تحت إبطي الأيسر
كتفي. يتدلى. أحاول تغيير مكان الحمل. يرتفع صوت من الجهات الأربع منبها:
"كل محاولة للغش تنتهي بالمنع من دخول الجنة. وقبل اجتياز امتحان سؤال/جواب:
ماذا فعلت؟ وماذا أكلت؟ ومن أكلت؟ وأي حقوق نهبت؟ وعلى من اعتديت أونصبت؟ هذه
الجنة، لا مكان فيها إلا لمن كان سفره نقيا من وسوسة الغيبة والنميمة والتطبيل
لتزييف الواقع، وتغييب الحقيقة، حتى وإن لم يأكل ولم يحتس حق غيره".
أتحسس قراطيسي، إنها غير ما يقصد المنادي. لم يكتبها ملاك الحسنات ولا ملاك
السيئات، هي كل عمري الأول الذي أمضيته في التفكير لحل أزمة الشغل، والتعليم
والصحة والسكن والحب. وعمري الثاني الذي انتهى، وأنا أحبر أفكاري على طرس
بقطرات دمي. حملتها إلى ملتقى الجمهور المحارب داء الموت والصمت. أرفعها توصيات
تفرض بالقوة الذاتية لما تبقى من أحياء في بلد الصمت والموت.
ركبت التاكسي، لم أكن أملك سيارة، فما يفيض عن مأكلي الشحيح وقرض مسكني، أشتريه
ورقا ومدادا، أحبر به أحلامي وأدسها تحت وسادتي لأراها في منامي. حيث لم يكن
ممكنا أن أتصفحها على الجرائد والمجلات. لا لأني لا أتقن فن التضرع بالكلمات،
يعميني الضوء الأصفر، وتتيه عن قاموسي بلاغة الاستعطاف والتمسح بالأذيال، ولا
لأن أبي أجير متقاعد لا اسم له بين اللوامع، وأمي امرأة تمضي يومها بين الطبخ
والعجين، وكنس باحة البيت، والابتسام لأبي. ولكن لأن كلماتي كانت بلا استعارات،
بلا رموز. وكانت تقطر سما. أنا لست مجذوبا أهذي بكلام المجانين، وكلام لا يفك
لغزه نجباء المدارس، فيسمونه البيان، فأنا ابن تنين، ولدت مجبولا على الرقص فوق
النار.
كان سائق التاكسي حنشا. قاد السيارة إلى قبو سري بدل ساحة ملتقى الرافضين همس
الموت، وسكون الصمت. لم يسمع أحد توصياتي. كان القبو قبرا مظلما تصفر فيه ريح
مزيج من لهيب النار تارة، وأخرى من مزيج الجليد، بينهما يتردد لهاث الموتى...
وأنا أحيط أوراقي بقبضتي. لم يتمكنوا من نزعها مني. التصق كتابي بصدري. صار
"أنا" ما خططت، مذ أدركت أن الكتابة نار أو كاللعب بالجمر. غطسوني في الماء
المجمد والساخن، ولم يمح الماء حروف طرسي، لأن مدادها دمي ودم الميت لا يسيل.
حملوها معي في نعشي. واروها التراب معي. لا أدري كم ضمني وإياها اللحد، حتى وإن
شئت الحديث عن عدد السنوات الأرضية التي قضيتها تحت الأقدام، فأنا لم أكن
متفوقا في الحساب، لأترجم السنوات تحت الأرضية إلى نظيراتها فوق الأرضية.
- كل يوم يألف عام؟!
- هذا احتمال.
اهتز الكون فوق القبو، وخرج الناس من تحت الأرض كالطوفان، يجرف الطاغوت
والكساح، والطغيان. وجاء يوم الحساب. كنت آخر الطابور. لم يكن طبعي التسابق
لاحتلال الواجهة، ولو أني متيقن أن طرسي خط من جهدي، وأني سريع البديهة، أحل
الألغاز والأحاجي في أقل من دقيقة. استبد بي الخوف من أن أكون تحت تأثير هواجس
الموتى، ولا يكون ما أراه هو الحقيقة. كان حلمي قبل انحراف السيارة بي عن
وجهتي، أن أرى الناس بحارا هائجة، وقد ملت تعديل القوانين بقوانين، ولا يتغير
غير نوع الورق، وتغيير وزير بوزير ولا يتبدل سوى لون القناع. خرجت الجماهير
ثائرة وقد أعيتها الخطب عن الإصلاح وإصلاح الإصلاح، والتغيير وتغيير التغيير.
ها حلمي تحقق بعد أن طواني الموت دهرا. غمرني شعور يتنازعه الخوف والفرحة.
الخوف من أن أصحو فأجدني مازلت في العالم السفلي، والفرحة لرؤية أروع مشهد على
الأرض التي قتلتني. الجماهير تطالب بالحساب. وصل دوري، انطلقت كالريح فوق
الشفرة المسنونة القاطعة. وقفت أمام لجنة اختبار سؤال/ جواب. تتكون من امرأة
وطفل ورجل. جمعت المتلاشي من قوتي لأواجه كل الأسئلة. ومهما تكن نتيجتي فلن
أرحَّل إلى أرض الصمت، وأنا لم أتعثر على الشفرة.
قال الرجل وهو يقرأ في ملف ضخم أمامه:
- الاسم: أحمد حمدان؟
- لم أختر اسمي.
- ولكنه سكنك.
- ما ولدت حامدا، ولا شاكرا.
- اجتزتَ اختبار الجري على الشفرة المسنونة بامتياز.
- لأن بطني فارغ. ولأني مارست، منذ صغري، لعبة الجري على شفرة الحلاقة.
- السوابق: السجن عشر سنوات...
- لأني حلمت بلباس أحمر لأرضي، شارته مطرقة وقلم ومنجل، وإنسان خرج من ثوب
القبيلة، وارتدى لباس المدينة، استبدل الديكتاتورية بالكرامة، بالانصاف والحرية
والعدالة...
- كنت شيوعيا؟
- كنت ماركسي لينيني.
- ومازلت؟
- مازلت أتبنى فكرة ماركس: "إن كنتَ بلا معنى، فأعرض عن هموم الآخرين." أمزجها
بأفكار عن واقعي حتى لا يكون فعلي دون جدوى... أبحث كيف أحول هموم الناس إلى
تمرد ضد كل ما يغيب الإنسان بداخل الإنسان.
- ونحن نصنع جنتنا، لم نتقيد حرفيا بفكر ماركس أولينين أو غيرهما من منظري
الثورات في العالم...كانت لثورتنا خصوصيتها وهامش كبير لحرية الأفراد فيها...
قال الطفل:
- أطفالك أربعة لم يتموا تعليمهم!
- تسعيرة الكتب التي طلبتها منهم المدرِّسة كانت أكبر من راتبي!
قالت المرأة:
- زوجتك ماتت من التهاب في الكلي!
- حملتها إلى المستشفى الحكومي محمومة. حددوا لها موعدا مداه سنة. نصحني سماسرة
العيادات الخاصة، وهم بعض أطباء المستشفى الحكومي، بنقلها في سيارة إسعاف خاصة
إلى عيادة خاصة. طلبوا بيتي مقابل العلاج، وكان بيتي مرهونا للبنك.
قال الرجل:
- مستواك الدراسي الإجازة!
- عشر سنوات، قبل اعتقالي وأنا محروم من العلم في رحاب الجامعة، لأني أستاذ،
وجاءت حقبة اصطلحوا على تسميتها بالتغيير. فرحت، لأن قانون الحجر على المعرفة
تم إلغاؤه، لكن الجامعة ألغت من أسلاكها كل التخصصات التي تسمح بها إجازتي.
- الدنيا تؤخذ غلابا.
- ولدت بلا مخالب، ليس لي إلا قلم مجروح يلطخ بالدم أفكاري، ويكتب بالأحمر
أوراقي.
- لماذا أحضرت أوراقك معك.
- كانت معي في دهاليز الموتى وما رأت النور.
قالت المرأة، وهي تقلب صفحات الملف أمامها:
- نتائج الاستغلال/ سلبي
- أستغل الطبشور الرديء، لأن مقتصد الوزارة مدبر، فأصابني الربو. أستغل كثيرا
القهوة والسجائر، فأنا عصبي ومنفعل، وعدد التلاميذ بالفصل أكثر من المقاعد، فحل
بي الفالج. أستغل كثيرا ضوء الشمعة لتصحيح الكراريس وتهييء الدروس، لأن فاتورة
الكهرباء ثقيلة كعدد الحصص، فأتلف بصري.
- الكذب/ سلبي
- كذبت على نفسي، حين وسوست لها أن بمقدور بلدي أن يصاحب في رحلته الشمس، ويشق
طريقه في الصخر. كذبت على زوجتي، حين أوهمتها أن الأستاذ يصنع الرجال والنساء.
زوجتي أسئلتها مربكة ومحرجة:
"من أين تعرف ماسح الأحذية هذا؟
- تلميذ درس بفصلي.
- من أين تعرف هذا البائع المختبئ بعربته من أعين المطاردين؟
- تلميذ درس بالمدرسة...
- من هذه المرأة، تجر أذيال اليأس، تقسط لحمها على أرصفة المجهول؟
- تلميذة نجيبة كانت."
نسيت، نسيت ما قلته لها عن المدرسة رافعة المستقبل، وعن الأستاذ يعد له النساء
والرجال."
كذبت على أطفالي حين همست في آذانهم تباعا، وهم في القماط، أني سأراجع لهم
دروسهم، ليكونوا متفوقين كأبيهم، فلم أفتح دفتر واحد منهم، لأني أعود من القسم
مصابا بالصمم.
- النميمة والغيبة/سلبي.
- عشر سنوات قبل اعتقالي، وأنا أغتاب نفس الموتى، أقولهم ما لم يقولوه، وفي كل
سنة، أغير ما قلت السنة قبلها. أضيف، أضيف من عندي الكثير... كل موتى المقرر
الدراسي أصابهم الضجر، لا من صمت قبورهم، ولكن من لغوي.
تداولت اللجنة في ما بينها، كان انتظاري رهيبا...
قال الطفل:
- لقد نجحت تعال، سنرافقك إلى الجنة.
أزقة نظيفة. شوارع تعبق برائحة الهدوء. أحياء بلا أكواخ، بلا دور صفيح. بيوت
مشرقة. لكل طفل غرفة تدخلها الشمس، أثاثها صوان ملابس زاهية، مكتب وكمبيوتر
وخزانة كتب من مختلف الألوان. فراش مريح محصن ضد الكوابيس الليلية، نافذة تطل
على حديقة حي بها ملاعب لليافعين والكبار ولعب للصغار، قاعة متعددة الوسائط
ومقصف محاط بالأشجار، تحت ظلالها كراسي من خشب العرعر، يستريح فوقها كبار السن،
يتسامرون في اطمئنان، وقد أغناهم راتب تقاعدهم عن مصارعة أشباح الجوع، ومنع
عنهم الضمان الاجتماعي خوف المرض وضائقة السؤال.
قالت المرأة: لنأخذ لنا قسطا من الراحة قبل استئناف طريقنا. أنا أشتهي كوب شاي
إلى جانب هؤلاء الرجال والنساء. إنهم ذاكرة هذه الجنة، يطيب لي الاستماع
لنقاشهم، وأنتم، اختاروا ما تشربون.
وجدنا لنا مكانا قرب مجموعة من رجال ونساء، فوق العقد السادس من العمر. ليسوا
بعجزة ولا هرمين، في هدوء يتواصلون، يناقشون أخبار العالم والسياسة الداخلية.
- كنا نرى سكان الشمال يتمتعون بالرفه الاجتماعي، ونحن نعض على أنامل الأسى
والألم، ولكن إرادتنا كانت أقوى من القهر. وها نحن أصبحا مثلهم نعيش في الجنة.
- تعطل بنا الزمن كثيرا قبل اللحاق ببلدان عاشت ثورات الانوار ونهضة العقلانية
وترسيخ قيم المواطنة، والديمقراطية، وحقوق الانسان...
- التأخر في الوصول خير من عدم الوصول. الأساسي أننا لحقنا بهم.
- بل تجاوزناهم في عمليات إجراء الانتخابات التشريعية.
- لا أظن... هم أيضا انتخاباتهم وبرامج أحزابهم مدققة ومحدد زمن إجرائها باليوم
والساعة. وكل إجراء مضبوط، ومبني على دراسة عميقة للواقع، ومتطلبات تنمية بشرية
مستدامة. لا شيء يترك عندهم للصدفة.
- تصوروا، قبل أن نصنع هذه الأرض الجنة، عشت منفيا في إحدى يلدان الشمال. حلت
فترة الانتخابات بها، فأصبت بحيرة اختيار برنامج الحزب الذي أصوت عليه، ولم يكن
لي حق التصويت هناك... ههههه.
- ولكن نحن أضفنا لكل ما قلتم، اختبار قبول ترشيحات البرلمانيين والبرلمانيات
وأعضاء مجالس النجوع الحضرية والقروية.
- أكان الامتحان عسيرا؟
- عادي... أسئلة في المعرفة العامة، أشكال الديمقراطية، حقوق الإنسان الكونية،
المواطنة، القوانين المنظمة للمجتمع، شؤون الاقتصاد والتسيير وعلوم المعلوميات
وفنون التواصل، والمعرفة بحغرافية البلاد، وطبيعة الساكنة واحتياجات كل
منطقة...
- ولكن الأسئلة كانت بها فخاخ!
- ضروري التأكد من أن المرشح لأي هيئة تشريعية أو تنفيذية، قد تخلص من موروثات
عصر الجحيم الذي خرجنا منه.
- كلنا أصبحنا على معرفة بمبادئ حقوق الإنسان وقيم المواطنة!
- المعرفة شيء، وامتلاكها وعيا وممارسة شيء آخر...
- مذ بعثنا في هذه الجنة، لم نسمع أن مسؤولا حكوميا او نائبا عن الشعب غش أو
ارتشى أو اغتنى على حساب الشعب أو من ماله... أو اجتمعت لديه سلطتي المال
والسياسة...
- يا سيدي! الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، كلها تقوم
بدورها في تعميق قيم مجتمع الجنة، عند الكبار والصغار، الكل يشتغل على تغيير
ذاته، يجتث جذور التعثر والجذب للوراء، ليواكب إيقاع التحول السريع الذي أصبحنا
عليه.
- ومع ذلك، لا بد من التأكد، كي لا ينفلت للمجالس، أو دواليب الحكومة عنصر مشوش
أو ملغوم بالجهل وقلة المعرفة، ونزعات الزبونية والمحسوبية والعنصرية، وهوس
الرحيل بعد الانتخابات من حزب إلى حزب.
- أنا أرى أن كل الناس في جنتنا قد غيروا موروثهم الثقافي، وسلوكاتهم، وامتلكوا
قيم الجنة: المواطنة، عشق الحرية، القبول بالآخر، احترام الاختلاف، تقدير
الواجب واحترام العمل، نشر العلم النافع، علم الحياة... الحفاظ على البيئة
وجمال الأفضية والأمكنة وجمال الإنسان.
ألتفت إلى المرأة، وكأني في غفوة أقول:
- عرفت في هذه المجموعة من النساء والرجال، يوسف، كان جاري، وكان بعض سكان الحي
لا يسلمون عليه لأنه يهودي، وعرفت "شوان" أُحْرِق بيته لأنه كان بوذيا. وعرفت
راشيل درستني. ونحن صغار، اعتقدنا يقينا أنها ستدخل النار لأنها مسيحية، لا
تذهب إلى الكنيسة يوم الأحد ولا تصلي... وعرفت سعاد رفيقتي، أحرقت لأنها خرجت
معي يدها في يدي تعلي صوتها... تصرخ أنها ليست نصف بشر أو ربع إنسان... وكلهم
هنا في الجنة؟ هذا محال... محال...
ضحكت المرأة وقالت:
- المحال والمستحيل هنا، أن يعيش إنسان بوهم أنه المطلق وأنه الحقيقة. يلمع في
عينيه الدم إن تمتم غيره في صلاته بأصوات ليس لها نبرات صوته. أو لبس غير
لباسه. هنا كل الأرواح استعادت ولادتها، تحمل العشق لا القتل، لا الرهاب، لا
الذكريات الغيبية.
أكملنا تناول ما طلبناه، وقمنا نكمل طريقنا أنا والمرأة والرجل والطفل.
ممرات للراجلين خلت من المتسكعين والعاطلين أو الهاربين من العمل. في الصباح
الباكر، نجد السعاة إلى العلم، خدودهم في حمرة الورد، فرحين بالذهاب إلى
المدرسة، لأن مدرسهم طيب ومجد، لا يحدثهم عن الموتى ولا يقمع فيهم رغبة السؤال.
لا يحشو أذهانهم بهواجس الامتحان. نشيط، لا تعزله الجبال والممرات الوعرة عن
الضروريات اللازمة لكل إنسان. لا يفكر في الخبز، ولا يشغله أمر علاج الأطفال
وكسوتهم ومستقبلهم. لا ترهقه حصص العمل الطوال، ولا اكتظاظ الأقسام، ولا مقرر
يلتهم ساعات العمل، ويضيف لها العطل. مقرر مرتجل وضع بلا تخطيط وعلى عجل.
قلت:
- أعشق أن أكون مدرسا، لكن المدة التي قضيتها بالقسم قتلت كل ملكاتي. أرهقت
مواهبي وجعلت جسمي موطنا أمميا للأمراض والعلل. أغلقت مراكز تكوين المفتشين
التربويين، ولم يكن يدخلها إلا الميامين، أما الإدارة، فمن نصيب الموصى بهم
والمقربين والمحظوظين، وحظوظ الناس غير متساوية.
قالت المرأة.
- نحن نحدثك عن أستاذ الجنة. ألم تر أنك عدت فتيا؟ والناس في الجنة سواسية،
أفضلهم أكثرهم جدية في العمل.
- أحب التدريس وأنا في الحب أتفانى، إن أحببت أموت، وأخشى أن أموت بالقسم.
-لن تموت بالقسم، قال الرجل وأضاف:
- في الجنة ندرك قيمة المدرس، ونعرف متى يصبح عطاؤه دما يسيل مستنزفا صحته...
قوانين الجنة مجتمعة وضعت للإعلاء من قيمة الإنسان، والحفاظ على كرامته...
قال الطفل:
- لن نتركك بالقسم حتى تخور قواك العقلية والبدنية، وتصبح بهلوانا يعبث الأطفال
بلحيته. مجتمع الجنة يعرف جيدا أن القسم متعب ومرهق وقاتل لمن يشيخ فيه...
قالت المرأة:
- اشتغالك بالقسم أقصاه خمس عشرة سنة، هي سنوات عطائك الميمون في مدرسة، هي أمك
الثانية، تخاف على رئتيك وعينيك من الحساسية، فتجعلك تشتغل بالمسلاط العاكس أو
أقلام الكتابة على السبورة البيضاء، أو الكمبيوتر والسبورة التفاعلية في قاعة
رحبة ومفرحة، مجهزة بالوسائل السمعية البصرية، لا تتهايت وتتصايح بجانب قاعتك
أقسام الرياضة، ولا تخترق كراتهم زجاج النوافذ، فتفاجئك بضربة على الرأس!
- تحيلون المدرس باكرا على التقاعد؟
- لا ... قالت المرأة مضيفة:
- يختار عملا لا يتطلب منه جهد القسم، إما في مجال البحث التربوي، أو الإداري
وليس شرطا إدارة التعليم، أو يلتحق بأي عمل بديل في حقل، أو معمل، أو مرسم، أو
مسرح، أو نادي قراءة وكتابة، أو متجر، وذلك، حسب استعداده و مؤهلاته التي طورها
خلال تعلمه الأول أو في مراحل تكوينه المستمر... ليس في الجنة عاطل إلى حين
اعفاء السن له.
قلت من فرح:
- واااااو! مضبوط ومدروس عدد التلاميذ بالقسم! ليس بينهم جائع، أو حاف أو مريض
أو مملوء رأسه بتواريخ الموتي، وهلوسات المجانين، وكلام من قبل (اصحمَّطرا)
و(اقطحَّلالا).
- ما هذه اللغة؟ سأل الطفل:
- هي لغة نعلم بها الفصاحة لتلاميذ وتلميذات البلد الذي أنجبني. نقول لهم إن
جملة من مثل (اصحب مطرا) أو (أقطع هلالا) ثقيلة في النطق، فنعلمهم كيف يدغمون
المقارب في مقاربه، وحين لا تسعفنا الأمثلة نتعسفها بلا معنى، فنقول لهم: قل:
(اجبحَّنبا) ولا تقل: (اجبه عنبا).
قال الرجل:
- ليس في مقرراتنا حشو ولا لغو، لهذا، قَلَّت حصص الأساتذة وساعات دراسة
التلاميذ. فبدلا من أن يقضوا ثلاث ساعات في الأسبوع لفهم وإفهام
(اجبهنَّبا) وأخواتها يذهبون للأندية الثقافية، والعلمية، والرياضية، والفنية
بدور الشباب، أو بالجمعيات وغيرها، يمارسون هواياتهم. مدرستنا هي رافعة التنمية
وتعليمنا مرتبط بالمنفعة.
صرخت بكل قوتي:
- وااااااو، قضاء مستقل، إعلام متحرر، صحة للجميع، تعليم ديمقراطي وله
الاولوية، مواطن حر... أعشق أن أكون أستاذا في الجنة.
قال الطفل:
- أنت أستاذ في الجنة.
أغمي علي من صدمة الفرحة...
استفقت على قوة جرس ضحكة رفيقي في الزنزانة، وهو يهز جسدي...
- حمدان، استيقظ، إنه وقت الفطور...
- هل كنت نائما؟!
- لم تهمد طول الليل، تتكلم، تضحك حد اللهاث...
- أضحك ممن يسدد سهامه نحو حلم معشوشب في صدرك ولحلمي أضحك هههههه
_ وانت غارق في النوم... ههههه
كانت ضحكة رفيقي، تخرج من غور صدر استحال ردما، لسنوات طوال من السجن ضريبة حلم
جماعي منهار.
*.¸.*´¸.•*¨`*
من تضمينات رواية الحلم لي
|

حليمة زين العابدين / المغرب
|
|
|